"تقاليد" جيريكو براون: أوديسا الرجل الأسود

  تعمل القصيدة ليس على تكثيف اللغة فقط، بل على تكثيف الحدث أيضًا. فمثلًا يمكننا أن نرى ملحمة شعرية ضخمة كالأوديسة تختصرها مارجريت آتود في 3 أبيات شعرية بسيطة في قصيدتها Siren Song : "الأغنية التي لا يعرفها أحد لأن كل من سمعها قد مات، والباقي لا يتذكرها". [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الشاعرة الكندية مارجريت آتود[/caption] هذا ما يحاول أن يفعله الشاعر الأمريكي جيريكو براون في ديوانه الأخير "التقاليد". فاز الديوان بجائزة بوليتزر للشعر هذا العام، وهو الديوان الثالث للشاعر. وفاز ديوانه الأول "رجاءً" (2008) بجائزة الكتاب الأمريكي عام 2009. وديوانه الثاني "العهد الجديد" (2014) فاز بجائزة أنسفيلد- وولف للكتاب.

ورود تقطف قبل ميعادها

من بداية الديوان نفهم جيدًا الطريق الذي يتخذه الكتاب لنفسه. يعيش براون في مجتمع لا يتقبل الرجل الأسود بالكامل حتى يومنا هذا، رأينا مؤخرًا رجالاً سودًا يُهاجَمون في الشوارع، وتصاعد لليمين في أمريكا، منذ بداية ولاية دونالد ترامب وحتى الآن، ولم تتضح بعد رؤى تعامل جو بايدن المرشح الفائز بالانتخابات الأمريكية في التعامل المؤسسي مع السود. تشغل فكرة الحياة كرجل أسود في أمريكا في هذه الفترة العصيبة تفكير جيريكو، خاصة في فترة الانتخابات الأمريكية الحالية والتي رافتها توقعات بحدوث عنف يميني في حال خسر ترامب الانتخابات. وانعكس كل  ذلك في الديوان، لكن نظرة جيريكو إلى القضية لا تنغمس فقط في واقعها الحالي، بل تنطلق من الماضي، من "التقاليد" الخاطئة التي نتج عنها ما يعاني منه الرجل الأسود الآن وتختلط مع حاضرها ونتائجها، فتكوّن في النهاية أوديسة كاملة للرجل الأسود.

نرى ذلك واضحًا في القصيدة التي تحمل عنوان الديوان:

"آستر. ناستورتم. ديلفينوم. لقد فكرنا

في أن الأصابع في القذارة تعني أنها قذارتنا، نعرف

أسماءً في الحرارة، في العناصر التي قال عنها

الفلاسفة إنها قادرة على أن تغيرنا. ستراجزر.

فوكسجلوف. يبدو أن الصيف يُزهِر

عكس أشعة الشمس، التي تقول عنها الأخبار إنها التهبت

على هذا الكوكب أكثر من الوقت الذي مسح فيه آباؤنا

العرق من أعناقهم. كوزموس. بيبيز بريث".

[caption id="" align="aligncenter" width="1000"] شرطي أمريكي يقبع بركبته على رقبة فلويد[/caption] هذا هو الجزء الأول من القصيدة، وفيه يصنع براون "كولاج" من أسماء الورود التي يزرعها مجموعة من العبيد. خليط لا يمكن أن يتجانس بأي شكل من الأشكال، العبودية وزراعة الورود. لكن براون ينجح في خلق صورة متجانسة بين الاثنين: صورة مزيفة، كأن هؤلاء العبيد يمتلكون تلك الورود.

أما في الجزء الثاني من نفس القصيدة فإنه ينتقل سريعًا من الماضي إلى الحاضر:

"رجال مثلي أنا وإخوتي قد صوروا

ما زرعناه لنثبت أننا كنا موجودين

قبل فوات الأوان، نسرّع الفيديو لنرى الورود المزدهرة

تكبر في ثوان، ألوان تتوقعها في قصائد

حيث ينتهي العالم، كل شيء ينتهي.

جون كراوفورد. إريك جارنر. مايك براون".

يتسارع إيقاع الزمن في القصيدة مع تسارع ازدهار الورود، ثم تتبدل أسماء الورود في الجزء الأول إلى أسماء 3 ضحايا من السود قُتِلوا في 2014 في الجزء الثاني من القصيدة. 3 ضحايا أعمارهم 18، 22، 43 عامًا، يصورهم براون هنا كورود تقطف قبل نضوجها الكامل. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الشاعر الأمريكي جيريكو براون[/caption]

اغتراب وتأنيب للذات

في قصيدته "أحجية" لا يُلقي براون أحجية حقيقية كما يطرح العنوان، بل هي مجموعة من الاعترافات التي قد تثير تساؤل القارئ معروفة أسباب بعضها، أما البعض الآخر فلا يجب أن يُناقَش من الأساس لأنها ببساطة اعترافات حول أمور حياته لا يجب أن يُحرم منها أي شخص. في بداية القصيدة، يشير براون إلى إيميت تل، وهو شاب إفريقي تعرض للتعذيب والقتله في ولاية مسيسبي، بعد أن بدرت منه مزحة في أثناء حديثه مع امرأة بيضاء عام 1941. ورغم أهمية القضية بين صف قضايا السود في أمريكا، يصدمنا براون بقوله إنهم (السود) لا يتعرفون على جسد الصبي، ولا حتى اسمه.

"لا نتعرّف على جثة

إيميت تل. لا نعرف

اسم الصبي ولا صوت

نحيب أمه.

لا نتبين تاريخ

هذه الأمة بداخلنا.

لا نعرف تاريخنا الخاص على هذا الكوكب لأننا

ليس علينا أن نعرف

ما نؤمن بأننا نمتلكه".

تبدأ القصيدة بنبرة تأنيب للذات تتحول تدريجيًّا إلى تعبير عن الاغتراب داخل ذلك المجتمع ثم الكوكب بكالمه، لكنه يستقر أخيرًا على أن هذا الجهل هو في الأساس حق لهم قد سُلِب منهم حين اعتُبِروا غير مرحَّب بهم على هذه الأرض، فبات عليهم أن يعرفوا تاريخها وتاريخهم، ليثبتوا لأي شخص أنهم جزء منها. تستمر القصيدة بهذا الأسلوب الاعترافي التطهّري، لكنها في النهاية تعود لنقطة البداية، حين يطلق براون سؤاله الأهم الذي يختم به القصيدة: "من نحن؟ من نحن على هذا الكوكب؟" المميز في ديوان براون أنه لا يناقش حياة الرجل الأسود من منظور فردي كما يفعل البعض، فدائمًا يتحدث ليس عن السود الآن، بل عن السود في كل وقت، وهي الطريقة التي يعامل بها الرجل الأبيض أي رجل أسود، إذ ببساطة لا يراه "رجلاً أسود" بل يعتبره "منهم" يراه رمزًا يحمل خلفه طابورًا طويلاً من السود.

نلاحظ ذلك في قصيدة "وتد" التي يقول براون في مطلعها: "أنا (هم) في معظم أمريكا". ثم يقول بعد ذلك:

"يقول الناس أشياء سيئة حولي

على الرغم من أنهم

لا يعرفون اسمي".

وفي موضع آخر:

"ضائع في غابة

غابتنا".

هناك مكان للحب أيضًا

الأمر اللافت في الديوان حقًّا، هو أنه رغم حساسية قضاياه، وقسوتها، ففي كل قصيدة تعبير عن الحب:

"أبدأ مع الحب، متمنيًا أن أنتهي عنده.

لا أريد أن أُترَك جثة خربة".

هذان البيتان البسيطان في قصيدته "دوبلكس" يمكن أن نعتبرهما خلاصة الديوان. فبينما هو مشغول بمصير السود فإنه في النهاية لا يريد أن يبتعد عن الحب. وهذا ما يريد براون أن يخلقه، قصيدة واقعية ومتوازنة، أو كما عبّر عنها في إحدى المقابلات: "مهما كان لون الشاعر، فأنا مهتم أكثر بالقصيدة التي تكون مثل الحياة التي نعيشها. أريد قصيدة تكون هكذا: رأيت الناس يموتون في كنيسة اليوم، ثم تناولت شطيرة، ثم افتقدت ابنتي. وفي الحقيقة، هكذا يبدو يومنا، وعلى القصيدة أن تحمل أطنانًا من هذه المشاعر". [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] جيمس بالدوين، أديب ومناضل أفروأمريكي[/caption] خاتمة

مع كل ديوان جديد، يثبت براون أنه صوت مهم في عالمنا، مستمر في نفس الطريق الذي بدأه من قبل جيمس بالدوين ونينا سيمون وغيرهما. ومِن أجل حل مشكلة السود، يجب في البداية الاعتراف بوجودها، وهذا الديوان يحاول بكل الطرائق ليس فقط عرض المشكلة بنبرة اعتراضية، بل –كما قال براون- مازجًا بينها وبين الواقع، صانعًا ربما نسخة حديثة منها،  تنطلق من جذورها لتصل إلى اليوم والساعة والدقيقة التي تقرأ فيها الديوان. أو كما يقول براون:

"أُقدم نفسي لعلك تفهم

كيف وصلتَ إلى هنا".