عمار على حسن يكتب: «ضيف على الحياة».. سيرة كاتب فلسطيني ورحلاته

ذات مصر

بعد حرب 1948 توزع كثير من الفلسطينيين على بلاد عربية شتى، صانعين ما يسمى بـ"الشتات"، الذي لا يزال قائما إلى يومنا هذا. بعضهم وجد مجتمعات تعامله كضيف يجب أن يُكرم إلى أن يعود إلى دياره، وأخرى تشفق عليه وتحدب وتتحمل وجوده دون سؤال عن موعد الرحيل، وثالثة لم تنظر إليه أبدا على أنه غريب، إنما هو ابن البلد الأولى بالعناية والرعاية. 

كان المجتمع المصري في مقدمة هذا الصنف الثالث، وهي سمة يحملها المصريون منذ أول التاريخ، حيث يفتحون أذرعهم لللائذ والمستجير والهارب بحق واللهفان والمستغيث والباحث عن ألفة وسلامة وأمن، أو أرض جديدة لفصل مختلف من حياته، فما بالنا لو كان هذا المستجير فلسطينيا، يتعاطف المصريون مع قضيته، بل يعتبرونها قضيتهم المركزية، شأن الأغلبية الكاسحة من العرب وقتها.

جاء والد الكاتب محمود يوسف خضر إلى القاهرة تاركا بيته في يافا مجبرا، إثر هجوم الإسرائيليين المتوالي على مدن وبلدات فلسطين وقراها لدفع أهلها إلى الفرار وأخذ كل ما يملكون من بيوت وحقول ومصانع  ومدارس... إلخ، فسكن حي "الضاهر" وفيه ولد محمود عام 1956، وهو العام الذي كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في الأذهان والنفوس مع العدوان الثلاثي على مصر، ومشروع عبد الناصر العروبي.

هذا السياق المفعم بالحنين كان طاغيا على كتاب "ضيف على الحياة" وهو يضرب نوعين من الكتابة بسهم واحد، السيرة الذاتية، وأدب الرحلات، لكن الكاتب جعل من تجواله في بلاد الناس، للعمل والنزهة والتعلم، جزءا لا ينفصل من مساره الحياتي، وجعل من طفولته وصباه في مصر، نقطة الانطلاق الأساسية وسنوات النشأة والتكوين، التي لا تزال حاضرة في نفسه، نلمسها في لهجته، وسمته، وحكاياته القديمة، ويلخصها هو بعبارة شفاهية دافئة: "لم أولد في مصر فقط، بل أنا أعد من المصريين"، أو كما ذكر في الكتاب "كل غريب يأتي إلى مصر يتمصر".

لا يعطي الكتاب شهادة بعين آخر على حقبة من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل هي بعين الذات، لا تختلف عن تلك التي حفلت بها السير الذاتية لمصريين ولدوا في الآونة نفسها، وشهدوا مصر في عهدي عبد الناصر والسادات، بكل شؤونها وشجونها. ولذا ينجذب خضر إلى التفاصيل الصغيرة، هندسة الشوارع، وهيئة البيوت، وما تبيعه الحوانيت، والباعة الجائلون، وعلاقة الجيرة والصداقة والزمالة في السكن والدراسة واللعب.

لا تنفصل هذه الرؤية الكلية عنه وهو يقوم برحلاته المتعددة في مشارق الأرض ومغاربها، وفي شمالها وجنوبها، فيما بعد، إذ كانت عينه دائما تراقب الطبيعة والطبائع معا، فيصف لك ما رآه لتراه معه، ولو بعد زمن، وكأنه يحمل على كتفه كاميرا تسجل كل شيء، ثم يتركها لينصت إلى من حوله، فينقل لك ما يشغل الناس، ويرسم لك الكثير من ملامح الطقوس اليومية في الأفراح والأتراح، وفي الأعراس والمآتم، وفي الصفاء والكدر.

ورغم أنه هو بطل الرحلات أو الحكايات، بحكم أنه راويها، نجده يفسح الطريق لكثيرين كي يشاركونه، سواء كانوا من علية القوم أو من بسطاء الناس، بل يوسع للأشياء لتحتل مكانها، وفق انجذابه إليها، وتفاعله معها، وانفعاله بها، فنجد الرقصات والحفلات وحلقات الذكر وسلو البدو وأهل الحضر، وأصناف الأطعمة والأشربة، التي تختلف من بلد إلى آخر، وتنبئ جميعها بالطرق التي يتآلف بها الإنسان مع ظروفه، ويتكيف مع أحواله، ويتغلب على مصاعبه، ويحل مشكلاته.

يتنقل بنا الكتاب بين قارات أربع، من الصحراء الجرداء التي لها جمالها الخاص، إلى الوديان العامرة بالخضرة، ومن حياة التقشف البسيطة، إلى عيش رغيد في قلب الحضر، ومن دول العالم الثالث، الفقيرة والنامية، إلى دول العالم الأول الغنية، دون أن يشعرك في أي لحظة بانسحاق حيال الغنى أو التحضر المظهري، أو القشرة الملونة التي تغلف بعض المدن، ودون أن تحس معه أنه مقتنع بهذا التقسيم الخاضع لـ "المركزية الأوروبية"، إذ طالما رأينا أناسا في الصحاري لهم من القيم والأعراف ما يفوق في محاسنه وفضائله تلك التي تعشش في رؤوس وقلوب سكان ناطحات السحاب في المدن العصرية. لا يضيع هذا من رأسه وهو يطوف بنا من مصر إلى الجزائر وتونس والمغرب وكندا والدنمارك وتركيا وإيرلندا الجنوبية وسلطة عمان وغيرها. 

لا ينسى خضر أن يبدأ من حيث انتهى، فيحط راحلته في آخر الكتاب على أرض القاهرة، التي يعود إليها باحثا عن سلواه ونجواه القديمة المتجددة، برفقة أصدقاء جدد، فيمد الخيط على كامل طوله عبر ستة عقود كاملة من الزمن، تغيرت فيها الأحوال، وجرت في النهر مياه كثيرة، لكن مصر التي سكنت مقلتي محمود وقلبه، لم تزل عند حالها الأولى، التي تفتحت عيونه عليها، وهي مسألة يدركها هو بخبرته، التي علمته أن المجتمعات القديمة لا ينفصل حاضرها عن ماضيها، وأن المصريين لم ولن يكفوا عن فتح أذرعهم للغريب، سواء جاء باحثا عن ملاذ، أو راغبا في سياحة أو تعليم.

قلت لمحمود خضر في تواصل بيننا عبر "واتس آب" إن الفصل الأول من كتابه نواة رواية أدبية، أتمنى أن يكتبها يوما ما، فتأتي حافلة بالكثير من التفاصيل والمواقف والمفارقات والبشر والأشياء، وأعتقد أنه سيفعل هذا فيما بعد، مدفوعا بحنين جارف إلى زمن القاهرة قبل نصف قرن، وبقدرته الواضحة على الوصف المتأني، ورسم الشخصيات، وبناء الحكايات، وجذب القارئ إلى نص فيه الكثير من الفن والمعنى.