علي الصاوي يكتب: المُعلّم الذي بَصق في وجه التلميذ

ذات مصر

بينما كنت أشاهد وثائقي تاريخي في موقع اليوتيوب إذ ظهر أمامي فجأة في قائمة الترشيحات العشوائية فيديو بعنوان "المعلم الإنسان" تركت الوثائقي في قائمة الانتظار ودخلت أسمع القصة، كان مدرسا في مادة اللغة الإنجليزية بإحدى مدارس العراق الحكومية، كان من بين التلاميذ ثلاثة طلاب فقراء جدا، يعلم حالتهم جيدا مقارنة ببقية الطلبة.

يقول المعلم: كلما نظرت في وجوههم رأيت أمارات الجوع بادية عليهم، لهزال أجسادهم وتواضع ثيابهم، ابتكر هذا المدرس حيلة تدريسية مختلفة لمساعدتهم في كل حصة، كان يأتي بالطعام كل صباح وينادي عليهم بالخصوص ويطلب منهم الأكل بدعوى أنه يشرح للطلاب بالإنجليزية كيفية تناول الطعام، علّمهم درسا ظاهره عملي وفي باطنه رحمة وإنسانية وتربية قلما تجد لها نظير، أطعمهم بكرامة وعزة نفس ولم يجرحهم، قام بدوره الإنساني والأبوي قبل دوره التعليمي.

تأثرت كثيرا بالقصة ثم تذكرت قول الأديب الرافعي رحمه الله حين وصف المعلم فقال: "المُعلّم ثالث الأبوين فلينظر حين يأبو كيف يُعلّم"، يقصد بذلك أن المعلم يقوم مقام الأب والأم في ساحة العلم.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله: ‏كنت لا أنجح في الدراسة إلا في الدور الثاني، حتى وصلت للمرحلة الثانوية فقال لي مدرس التاريخ: أنت عبقري يا عبدالوهاب! يقول المسيري: بعد هذه الكلمة تغيرت حياتي تماما، مع أني لا أدري هل اكتشفني فعلاً أم أنه كان من باب التشجيع وأنا صدقته، المهم أن النتيجة كانت واحدة فقد تغيرت حياتي منذ سماعي لتلك الكلمة حتى أصبح موسوعة في العلم والمعرفة.

الدور الإنساني الذي يقع على عاتق المعلم يفوق في أهميته وخطورته الدور التعليمي الذي يقف عند التلقين والشرح، بل يتعداهما إلى التوجيه والإرشاد والدعم المعنوي الذي يّشكل سنادة قوية في تنشئة الطالب تنشئة سوية معتدلة تجعل منه قصة نجاح مرموقة في المستقبل.

بعيدا عن الإهانات اللفظية التى تترك في نفس التلميذ جرحا غائرا لا تداويه الأيام، وذلك يتطلب تأهيل نفسي وفكري واجتماعي مناسب للمعلم لاحتواء التلاميذ ومراعاة أحوالهم، هُم ليسوا مجرد صناديق لتعليب العلوم بالغث والسمين، فالمدرسة هى البيت الثاني للتلميذ إما أن تصنع منه إنسانا سويا أو إنسانا كارها للعلم والمعلمين والحياة بأكملها.

وأذكر هنا قصة لأحد مدرسين الصف الابتدائي بمدرسة في ناحية نائية بعيدة عن التحضر ورِكاب التقدم، عندما وقف أمامه أحد التلاميذ خائفا لملامحه العبوسة القاسية، لم يستطع الطفل الإجابة على سؤال كأمر طبيعي يقع فيه أى طفل، قبل أن يباغته المدرس ببصقة في وجهه آلمته.

ربما ظل أثرها باقيا إلى الأن في نفسه فما يدرينا، ليته عاقبه العقاب التقليدي بالضرب على يديه بالعصا، بل أهان الطفل المسكين الذي لم يكن يملك شجاعة أدبية آنذاك ولا سند اجتماعي للرد على ذاك المريض السيكوباتي.

مَن حكى لي هذه القصة قال: وبعد البحث والتقصى تبيّن أن ذاك المدرس تربى يتيما عند أخواله يَصول هنا لسد رمق، ويجول هناك لاتقاء برد، عاش يطلب العطف ويستجدي الاهتمام، وهذا لا يعيبه في شيء، فالنبي كان يتيما ورباه عمه لكنه كان رؤوفا رحيما، الغريب أن تلك الظروف القاسية لم تُهذّب في ذاك المعلم شيئا من الرحمة والإنسانية، بل أفرغ كل عقده على مَن هم أقل مِنه وأضعف تحت غطاء التعليم، لإشباع ساديته وسدّ النقص الاجتماعي الذي عانى منه في صِغره.

تلك النماذج القميئة تُسيء للعلم ومهنة المعلم، ولا ندري كم تلميذ بصق في وجهه بعدها وأهان كرامته، فهو ما زال يعمل في تلك المهنة الجليلة، لذلك وَجب على ولاة الأمر فحص كل مَن يتقدم إلى تلك المهنة نفسيا واجتماعياً، كى تلفظ وزارة التربية والتعليم تلك النماذج المريضة إلى مكانها الطبيعى على الأسِرّة في عيادات الطب النفسي، والغريب أنه كان يدرس الإنجليزية أيضا.

فإن لم يكن التعليم أداة تنشئة سوية ومعتدلة للطلائع من الأجيال فمن يكون؟ فالتعليم هو اللبنة الأولى في تشكيل شخصية الإنسان، وبذرة انطلاقه نحو تشييد شجرة النجاح في الدنيا، وهذا لن يتحقق إلا على يد مدرسين أمناء وأسوياء يُقدّرون المسؤولية وقيمة المعنويات في تربية الطالب، في النهاية كبر التلميذ وردّ للمدرس بصقة الماضي، لكنها بصقة من نوع آخر، بصقة تفوقه ونجاحه فى مجاله.