هشام الحمامي يكتب: ومن «أقصى المدينة».. دائمًا ما يجيء.. وجاء

ذات مصر

أعتقد أن المقاومة سواء كانوا من (فتية الأنفاق) أو من (أهل الأنوار) كانت تتوقع بتبصر كامل، ردود الأفعال على 7 أكتوبر، ردود الأفعال كلها، من جهة الغرب وإسرائيل (سلاحا وإعلاما) ومن جهة المحيط العربي (حكاما وشعوبا)، وأهم توقع بالطبع ما كان وما يكون وما هو كائن وما سيكون من (صفوة القرن) أهلنا في غزة.

لكن الشيء الوحيد الذي لم يتوقعوه (بعد إذن الحاج يحيى) هو هذا المشهد الرهيب الذي نراه في جامعات أمريكا من هؤلاء الطلاب وهؤلاء الأساتذة وكل هؤلاء الذين جاءوا من (أقصى المدينة).

***

علمنا (القرآن) أن هناك صوتا من بعيد دائما يأتي، في وقته يأتي، وفى قوته يأتي، وفى بيانه يأتي، إنه صوت (أقصى المدينة)، ويا كل الكمال، ويا كل التمام، ويا كل الكل من كل شيء، في روعة الوصف وبيان الوصف وعظمة الوصف، دائما ما يكون من أبعد مواضعها قدما، ودائما ما تكون كالرعد الصاعق كلماته، ودائما ما تكون كالوعد الصادق كلماته، ودائما ما تكون كالمسك الخاتم كلماته.

****

(ما رأيته بأكبر جامعات أمريكا ما كنت أصدقه لو لم أره بنفسي، تضييق وانتهاكات وفض بالقوة واعتقالات وعنف وتخويف وتهديد وشيطنة للمحتجين على الحرب، وترهيب لوسائل الإعلام غير الحليفة والتضييق عليها. تصاعد الاحتجاجات واتساع نطاقها مؤلم وفاضح للسردية الكاذبة، وهذا سر هذه الهستيريا).

هكذا علق الصديق الكريم، «عبد الفتاح فايد» مراسل قناة الجزيرة بأمريكا على حركة طلاب الجامعات الأمريكية الفائرة الثائرة ضد إسرائيل والغرب، وما تفعله إسرائيل باسمهم واسم حضارتهم في غزة! من إبادة جماعية وتقتيل وتهديم وتدمير لكل شيء، كل شيء بالمعنى الحرفي، وبالمعنى (التلمودي) إذا أردت.

***

وإذا كان الطلاب الآن يعكسون (القلب الجماعي) النابض بالحزن، الموغل في الألم، على ما يرونه في غزة، فما سيفعله بعض الأساتذة، سيكون بطبيعة الحال أعمق وأوسع تأثيرا، وسيكون هذا التأثير في مداه المديد حين يأتي صوته من عمق الأعماق.

من شخصية يهودية جامعية مثل ناعومي كلاين، والتي ستستدعى في خطاب لها أهم وأخطر وأقوى ساعة في (تاريخ الشخصية اليهودية)، بل وفى تاريخ الإنسانية إذا جاز لنا أن نعتبر أن الشخصية اليهودية ما هي إلا (الشخصية الإنسانية) في ضيقها وتمردها وعنادها وجدالها، كما قال لنا أستاذ كل الأجيال د/ عبد الوهاب المسيري (ت/2008م) رحمه الله.

الحاصل أن د/ كلاين ستحدثنا عن ساعة رجوع سيدنا موسى عليه السلام من ميقات ربه، إلى حيث وجد قومه الذي كان قد غادرهم للتو، وأخاه هارون بينهم.

ذهب ليعود، وأي ذهاب كان، وأي عود سيكون! 

***

ستقرأ لنا صاحبة كتاب (عقيدة الصدمة) ناعومي كلاين (54 عاما) هذه الساعة قراءة أخرى، قراءة تمثل (ضوء الأضواء) كما يقولون:

(كنت أفكر في موسى، وغضبه عندما نزل من الجبل، ليجد بني إسرائيل يعبدون عجلا ذهبيا، هناك طريقة جديدة لفهم هذه القصة، إنها الأصنام الكاذبة، فالأمر يتعلق بميل الإنسان إلى عبادة ما هو دنيوي ولامع، والنظر إلى الصغير والمادي، بدلا عن الكبير والمتعال).

ولا أحتاج إلى أن أقسم لكم فالنص موجود في الجارديان البريطانية (24/4) من 5 أيام وترجمته متاحة، لقد قالت بالفعل (الكبير المتعال) ولولا أنها ناعومي، وكلاين كمان،لقلت إنها تقرأ لنا من سورة الرعد (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال).

الكبير المتعال من أسماء الله الحسنى التي تعنى الكثير، وما هو أكثر من الكثير عند الفلاسفة المؤمنين، ذلك أنه سبحانه كبير ومتعال عن الزمن والتاريخ والوجود والحيث والأين والكيف وكل ما هو محدد ومحدود.

الحاصل أن أختنا ناعومي أكملت قائلة: (لا نحتاج ولا نريد وثن الصهيونية، نريد التحرر من المشروع الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا، نحن نسعى للتحرير من الدولة العرقية التي تريد أن يشعر اليهود بالخوف الدائم، حتى نركض إلى حضنها وتحت قبتها الحديدية، لا يقتصر الأمر على نتنياهو، بل العالم الذي أوجد نتنياهو، عالم الصهيونية).

هكذا قرأ العالم كله تلك الكلمات من امرأة يهودية، لا تمثل ذاتها الشخصية أو الموضوعية أو العلمية فقط، بل تمثل الإنسانية كلها، الآن وأكثر من أي وقت مضى.

***

وسواء كان الإنسان يدرك الكذب، أو لا يدركه، فإنه دائما على وعى بأنه على مشهد منه.

هكذا سيكون علينا في هذه الأيام، ونحن نتابع الحراك الذي يتسع كل يوم في الجامعات الأمريكية، أن نستعيد بالذاكرة مشهد مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة (جلعاد إيردان/53 سنة) وهو يرد على النبيل البرتغالي (أنطونيو جوتيريش /75 عاما) أمين عام الأمم المتحدة يوم 24 أكتوبر الماضي حين قال: (7 أكتوبر لم يحدث من فراغ).

قائلا له بكل ما يحمله طابعه من كراهية مكنونة للبشر، وبطريقة أشبه ما تكون بطريقة الشاربين ومدمني المخدرات: أين تعيش يا رجل؟ 

ولن يكون مهما هنا أن نسأل عن شعوره وهو يرى ما يراه العالم، وأين؟ 

في جامعات أمريكا، بل وفى أكثرها وصلا واتصالا بهذا الصراع (جامعة كولومبيا) جامعة (إدوارد سعيد ت/2003م) صاحب أحد أهم الأعمال الفكرية في القرن الماضي، كتاب (الاستشراق) صدر سنة 1978م. 

والذي -ويا للمفارقة- كان ينتظر (7 أكتوبر) لتُقرأ صفحاته سطرا سطرا، وتتلى فصوله، فصلا فصلا، في وجوه وعيون وتصريحات بايدن وبلينكن وسوليفان وباقي الجوقة في أوروبا.

كيف يجرؤ جوتيريش ويربط في هذا الصراع التاريخي الطويل أحداثه بعضها ببعض؟ ما جاء منه، وما بُنى عليه؟

***

ما من شيء ومهما يكن صغيرا إلا وله ظل، وما يحدث الآن في جامعات أمريكا (12 جامعة حتى الآن) ليس شيئا صغيرا بأي حال من الأحوال.

يقولون إذا عطست فرنسا تصاب أوروبا بالإنفلونزا.

فما بالك أذا عطست أمريكا؟!

إنها بركات وخيرات أهل الأنوار حول الأرض المباركة، أصحاب الصدق الذين يرون الأشياء بنور الله، الذين أعدوا لكل أمر عدته كما أمرهم الله، والذين عرفوا، وفهموه وذاقوا، فنالوا.

وكأن أمير الشعراء كان يصفهم حين قال:

فهموا السر حين ذاقوا وسهل ** أن ينال الحقائق الفهماء.