أبو العلا والحسن الأكبر.. نُزهة السلاطين من بولاق إلى عابدين

ذات مصر

لم يكن عمرو دياب يعلم أن كليب أغنيته "ضحكة عيون حبيبي" سيكتسب قيمة أرشيفية إذ سيكون آخر توثيق حيّ لبناء صممه قبل أكثر من 80 عامًا جوستاف إيفل، الذي شيد برج إيفل في باريس. 

أمّا البناء الذي وثقه عمرو دياب في كليبه بصور حية وأخيرة له، فهو كوبري أبو العلا الذي فُكِّكَ عام 1998، وشُيِّد مكانه كوبري 15 مايو الرابط بين طرفي النيل من حي الزمالك في الجيزة إلى حي بولاق أبو العلا. 

كان تفكيك الكوبري الذي سُمّي على صاحب الأرض التي أظهرتها انحسارات النيل (بولاق أبو العلا) انتصارًا لسلطنة أبو العلا، التي يبدو أنها تجاوزت عالم الروح إلى مادة الأرض والبشر وسادت وتفشّت.

فثمّة مفارقة في القصة: كان كوبري أبو العلا، وبجانب أنه تحفة فنية في العمارة، كان تحفة فنية في التكنولوجيا عندما شُيّد عام 1912، إذ كان يُفتح من منتصفه بما يسمح بمرور المراكب والبواخر في طريقها دون عائق، قبل أن يتوقف لأسباب متضاربة تقودنا إلى قصة تقول إن السلطان أبو العلا زار رجلاً من محبيه من سكان بولاق في المنام وأخبره بأن الكوبري مهدد بالتداعي، فقام الرجل يروح ويجيء على المسؤولين ليخبرهم بأمر الكوبري وتحذير السلطان، حتى اكتُشف عيب يهدد الكوبري إذا ما انفتح. 

تقول مصادر إنه لم يكن ثمة عيب فنّي وأن إغلاق آلية فتح الكوبري كان بسبب سوء الصيانة، وتقول مصادر أخرى إنه كان هناك عيب، وتبقى قصة الرجل الذي حذّر على لسان السلطان أبو العلا روايةً بلا أسانيد، لولا أنها متواترة على ألسن الناس في منطقة سميت مرة وللأبد باسم رجل جاءها مرتحلاً واستقر على ضفتها مع النيل، و"علا" فيها وساد وسُلطن. إنه أبو علي الحسين بن الحسن الأكبر بن علي البدري، وهو أبو العلا. 

هل يذكرك اسم الحسن الأكبر بشيء؟ عابدين؟ نعم، شارع محمود سامي البارودي رسميًّا، في منطقة عابدين بوسط البلد، والذي لا يزال يعرف بين الناس بشارع الحسن الأكبر، إنما هو نسبة إلى صاحب المسجد والمقام، الحسن الأكبر الأبطح بن علي البدري. 

لقد جاء أبناء علي البدري الحسيني إلى مصر، وتولوا أَزِمّة الأمر، فالابن الثاني لعلي البدري هو شيخ العرب السطوحي الملثّم أبو الفتيان أحمد البدوي. واستقر المقام بالثلاثة (أبو العلا والحسن الأكبر والبدوي) على خط مستقيم من بولاق إلى عابدين إلى طنطا، في ما يبدو أنه مفارقة ثانية.

سلطان الأرواح

لم يكن أبو العلا سلطانًا. إنه أمرٌ شائع الاعتقاد بأنه كان سلطانًا فعلاً بمعنى الحكم والسياسة، رغم أنه لم تكن له السلطنة قط إلا في عالم الأرواح، سلطنة امتدت لترسم حدود مملكتها في منطقة بولاق التي بات كل شيء فيها منسوبًا إلى الشيخ المعمِّر 120 عامًا بحسب غالب المصادر. 

ينتهي نسبُ أبو العلا إلى الحسين بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء. وكانت مصر آنذاك قد استقر فيها ثقل الدولة الإسلامية بعد تداعي الحكم في بغداد، ما قد يفسر، بالتضافر مع عوامل أخرى، أنها صارت مستقرًا للكثير من الرموز الصوفية الأكثر شهرة والأعلى مقامًا، ومنهم أبناء علي البدري الذين وجدوا ترحابًا فائقًا من المصريين، وسيادةً لم يمحها الزمن. 

استقر أبو العلا في مصر التي ارتحل إليها بعد وفاة عمه السيد البدوي، والذي كان قد ربّاه وسلّكه في مكة، لذا بدا سلوك أبو العلا في الطريقة شبيهًا بسلوك عمه، وقد ناله كذلك ما نال عمه من الاتهامات ومن المكانة على السواء، كما تشابهت طريقة حياة كليهما. 

الآن، وبعد أكثر من ألف عام على وفاة أبو العلا، كل شيء في بولاق يوحي بأنها مملكته على الأرض، من أسماء المحال إلى أسماء البشر، إلى العرف السائد بين التجار بأن السلطان يراقب سلوكهم في التجارة وتصرفهم في البضاعة والمال. ربما لم تصبح سطوة السلطان على القلوب في بولاق كما كانت، لكن تظل بولاق المنسوبة إلى أبو العلا ولو بعد ألف عام.

كيف صار "أبو العلا"؟

تقول الروايات إن أبا علي الحسين بن الحسن الأكبر، صار أبو العلا عندما نزل في بولاق، وقدّمه إمام الجامع للصلاة، ليقال له: "لقد اعتليت العلا يا أبا علي"، فـ"علا" كل منزلة وكُنِّي بأبي العلا. وتعزز لقبه بما يورد عنه من كثرة تطورات الأحوال ووفرة الكرامات التي يقول قدماء سكان الحيّ إنها لا تزال حاضرة، وإن ما كتب على باب مسجده "باب مجرب لقضاء الحوائج" ليس مبالغة. وللقصة رواية أخرى: حين لم يجد موطئًا  للصلاة في المسجد، صلّى على منديله، فطار به منديله في الهواء، فقيل: "نلت العلا يا أبا علي". 

مقام السلطان أبوالعلا

وعلى كل، وكغالب ما يرد عن كرامات رجال الصوفية، فليس عليها ما يُستدل به، غير أن بعضها بمنهج الرواية القديم يصل إلى حد التواتر، والأهم أن الناس يصدقونه ويمتثلون له، ليرسموا ما قد يعتبره البعض "أسطورة"، تاريخًا غير رسمي، يغلب في العقل الجمعي على التاريخ الرسمي، بل يؤثر في مساره.

ما يرد من كراماته

ومما يرد من جملة الكرامات اللاحقة على وفاة أبي العلا بألف عام، بحسب إمام المسجد في 2013، الشيخ أحمد صبري، أن صندوق النذور تعرض لمحاولتي سرقة انتهتا بموت السارق دون تدخل أحد. ومما يرد عن كراماته أيضًا أنه كان يحيل التراب ذهبًا وفضة، وأنه أمر اشتهر به، حتى ذمّه المبغضون واتهموه بالسحر، لكن يرى محبوه اتصال هذه الكرامة بسياق المكان المعروف بالتجارة والتجار والحرفيين، الذين ساهموا في تشييد المسجد المُقام على ضريحه وتجديده على مدار الزمن. 

فمما يُروى أن أوّل مسجد بني على ضريحه، بناه تاجر يُدعى نور الدين علي البُرُلُّسِي، بعد أن رأى أبو العلا في المنام يحثه على بناء مسجد مكان زاوية ضريحه، وكان ذلك عام 890 هجريًّا. 

ومن هذا التاريخ وقع خلط أن وفاة أبو العلا كانت في أواخر القرن التاسع الهجري. فقد ذكر الشعراني في طبقاته أن وفاة أبو العلا كانت "سنةَ نَيِّفٍ وتسعين وثمانمئة"، في حين أن الأرجح أن وفاته كانت في 738 هجريًّا، بما يتوافق مع حياة والده وعمّه، وإنما وقع الخطأ كما قلنا بالخلط بين وفاته وتاريخ بناء المسجد.

زواجٌ بالأمر الإلهي

ثمة النذر اليسير مما يعرف على وجه الدقة من حياة السلطان أبو العلا، مثل أنه جاء مصر من مكة برفقة والده، وكان ذلك بعد وفاة عمه البدوي (675 هجريًّا)، والأرجح أن ذلك كان في العقد الأخير من القرن السابع وربما في عام 698. وتتفق المصادر مع الروايات الشعبية على أن أبو العلا ظل في خلوته 40 عامًا لم يخرج خلالها، وأنه خصّ قلة من المقربين لرؤيتهم في زاويته، وكان يُحدّث الناس بالعلم من خلف الشباك. بين المؤرخين المحدثين خلاف بشأن ما إذا كان السيد أبو العلا قد تزوج أم لا، فيطعن البعض في نسب من ينتسب إليه مؤكدين أنه كان على نهج عمه البدوي في عدم الزواج وأنّه إنما خلّف مئات من الأتباع والمريدين، رغم توثيق النسابة لشجرة سلالة أبو العلا، وعلى رأسهم ابنه عليّ المقرئ، الذي كُنّي به "أبا علي الحسين". كما أنّه لم يُذكر له من المصنفات سوى ما نقل عنه شفاهةً ودوَّنه بعض المصنفين مثل عبد الصمد المصري في "الجواهر السنية في النسبة الأحمدية"، ومنها قصيدة رثى فيها عمه، وعدَّد بعضًا من ابتلاءات أجداده آل البيت في مشارق الأرض ومغاربها. 

شعر أبو العلا في رثاء أحمد البدوي من مخطوط "الجواهر السنية"

ولد السيد الحسين أبو العلا في مكة سنة 618، بكرًا لوالده الحسن الأكبر ووالدته فاطمة بنت علي أبي الخير الهادي اليمانية، وذلك بقصة جاءت في مخطوط ليونس بن عبد الله المعروف بأزبك الصوفي، بحسب ما نقل عبد الصمد المصري، جاء فيها أنّ الحسن الأكبر وهو في مكة رأى في المنام هاتفًا يأمره بطلب اليمن للزواج بفاطمة بنت علي أبي الخير، وأخبره بأنّها "شَلّا بيد واحدة" أي مصابة بالشلل. 

فلما قام أخبره والده أن يروي له ما رآه، فقال لوالده علي بن إبراهيم أن يخبره هو، فقص عليه قصة الرؤيا، ثم أمره أن ينتظر وستأتيه فاطمة بأهلها دون أن يرتحل إلى اليمن. وقال الوالد عليّ: "همم الرجال تشيل الجبال".

وقد كان أن جاء أبو خير عليّ بأهله، وطلب آل علي بن إبراهيم، لمّا رأى هاتفًا يأمره أن يزوج ابنته بالحسن بن علي بن إبراهيم ويكون لها الشفاء. وتزوجا، وشفيت فاطمة وأنجبت بعد عام من الزواج الحسين الذي صار السلطان أبو العلا

وارث البدوي

بقي الحسين في كنف عمه البدوي يُقرئه ويُعلّمه ويلاعبه، حتى إنّ الحسين أحدث جرحًا بالموسى في جبين البدوي ظل مرافقًا له إلى وفاته. ومما يروى أنه لمّا ذهب عمه البدوي إلى مصر، رآه في المنام، فقال له: "يا عم، أقلقني الشوق إليك، فما أفعل؟" فأمره عمه بصعود جبل أبي قبيس في مكة، وكان البدوي يتعبد في مكة. 

وما إن يصل إلى الجبل يناجي ربه بـ"اللهم يا من ساق عمي أحمد إلى مصر، سُقْه إلى هنا"، فلمّا أفاق أبو العلا فعل ما رآه في المنام فجذبته يد البدوي إلى سطوحه في طنطا فالتقى عمه، وأعادته يده إلى جبل أبي قبيس. ويُروى أنه ظل على تلك الحال إلى وفاة عمه، ثم انتقاله هو إلى مصر. 

ويتبدى أيضًا ارتباطه بعمه وارتباط عمه به، من أنه لما زار والده الحسن الأكبر عمه البدوي في طنطا بعد نحو عام من سفره، أودعه مكتوبًا يسلم فيه على إخوته ويوصيهم، بدأه بالسلام على أبو العلا، وطلب من الحسن الأكبر أن يتلوه أبو العلا، وقد جاء فيه: "...وما عدتم تسمعوا مني سلامًا ولا كلامًا إلا ما كان في المنام". 

ومما مُيّز به السلطان أبو العلا عن غيره من شيوخ الصوفية، وصفه بعجائب كثرة التطورات، كما أورد عبد الوهاب الشعراني في الطبقات الكبرى، واصفًا أبو العلا بقوله: "من كمّل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرة، وكان كثير التطورات"، ثُم يُفصّل قائلاً: "تدخل عليه بعض الأوقات تجده جنديًّا، ثم تدخل فتجده سبعًا، ثم تدخل فتجده فيلاً، ثم تدخل فتجده صبيًّا، وهكذا". 

ولعل الشعراني أراد بالتطورات "الأحوال". و"الحال" مما استشكل من مفاهيم الصوفية، مع شبه إجماع على أنه عارض شعوري يطرأ على الإنسان ولا يدوم، أو كما قال أبو القاسم القشيري في رسالته: "معنى يرد على القلب من غير تعمّد ولا اجتلاب ولا اكتساب، من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هيبة أو اهتياج". 

ويُروى عن شيخ ومؤسس الطريقة البرهانية الشهيرة، الشيخ السوداني فخر الدين محمد عثمان عبده، أن أبو العلا في مرتبة محيي الدين بن عربي، فوفقًا لعبد الله ناصر حلمي الأمين العام لاتحاد القوى الصوفية، قال شيخ البرهانية: "سيدي السلطان (أبو العلا) من أكابر أصحاب المراتب الختمية من أمثال سيدي محيي الدين بن عربي". 

انتقل السلطان أبو العلا في عام 738 هجريًّا على التحقيق، وقال الشعراني إنه انتقل "سنةَ نَيِّف وتسعين وثمانمئة"، ويُرجح أنه قد اختلطت عليه سنة انتقاله بسنة بناء المسجد في 890 هجريًّا، ودفن في زاوية خلوته، وأقيم عليه ضريح، ثم مسجد كبير عرف الكثير من التطويرات والتوسعات والإصلاحات على مدار السنوات اللاحقة على وفاته، وبقي من أثاثه على قدمه المنبر الخشبي الذي بني مع أول بناء للمسجد في أواخر القرن التاسع الهجري.

الحسن الأكبر.. السلطان الأول وصديق بيبرس

بمد الخط على استقامته، جغرافيًّا من بولاق إلى حرم قصر عابدين، وروحيًّا من وإلى أبو العلا والحسن الأكبر؛ نصل إلى شارع محمود سامي البارودي بمنطقة عابدين بوسط البلد، والذي لا يزال يعرف على ألسنة الناس بشارع الحسن الأكبر، نسبة إلى صاحب المشهد في حرم قصر عابدين، الحسن الأكبر الأبطح بن عليّ البدري. تقول الحكاية إن الحسن الأكبر، الذي ولد بزقاق بلاط الحجر بفاس سنة 583 هجرية، خرج برفقة والده وإخوته ومنهم أحمد البدوي، من المغرب باتجاه مكّة، في سنة 603 هجريًّا.

وكانت الهجرة بعد رؤية رآها الوالد علي البدري وهاتف يأمره بالارتحال إلى مكّة حيث يكون له فيها "شأن"، فأخذ أهله وماله وخاضوا رحلة استمرت 4 سنوات، يقال إن منها بضع سنوات استقروا فيها بمصر، قبل أن يصلوا إلى مكة سنة 607. 

لكن رواية أخرى تشكك في قصة المنام، وتزعم أنّ هجرة آل البدري من المغرب إلى مكة إنما كانت بسبب إجراءات حُمِل فيها على الشيعة، معتبرةً أنّ آل البدري كانوا من الشيعة الباطنية. 

غير أن في هذه الرواية ما يمكن اعتباره تحاملاً بسبب تجاهلها التواريخ، فقد بدأت حملة التبرّؤ من ميراث محمد بن تومرت على يد إدريس المأمون الذي تولى أزمّة الحكم في دولة الموحدين ما بين عامي 624 و625 قبل أن يستتب له الأمر في 626 هجريًّا، ليعلن التبرأ من ميراث ابن تومرت بحسب ما أورده عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب". 

ويذهب البعض إلى التأكيد على أنّ ابن تومرت كان فيه تشيّع، حتى قال شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء، إن كتاب "أعز ما يطلب" لابن تومرت "وافق المعتزلة في شيء، والأشعرية في شيء، وكان فيه تشيع"، وحتى الذين ينفون عنه التشيع، لا ينفون استدعاءه الإرث العلوي-الإمامي في فكره وسياسته، حتى قيل إنّه ادّعى المهدية. 

لذا فإن الحملة على إرث ابن تومرت، والتي استتبعت بطبيعة الحال حملة على العلويين نسبة واعتقادًا، وعلى زعامة الموحدين بالجملة، لم تكن إلا بعد هجرة آل علي البدري إلى مكة وبأكثر من 20 عامًا. 

لكن ما يمكن قوله، إن بلاد المغرب آنذاك قد بدأت فيها الاضطرابات السياسية على خلفية صراعات داخل دولة الموحدين نفسها، ولا ينفي ذلك رواية منام علي البدري الذي أمره بالارتحال إلى مكة حيث يكون لهم فيها شأن، لكنه بالضرورة ينفي حجة الحمل على آل البدري بأنهم من فلول الفاطميين. 

عاش الحسن في مكة، وتزوج بالقصة التي أوردناها، وخلّف الحسين أبو العلا الذي ورث عن والده الطريقة والسلوك، كما ورث عنه لقب السلطان، فقد كان الحسن الأكبر أوّل من لُقّب بالسلطان، وقد أطلق عليه عرب الحجاز هذا الاسم في ما يبدو لعلاقته المشهورة بالسلطان الظاهر بيبرس، وورثة عنه أبو العلا. وبالجملة، كان لآل البدري حظوة في مصر، خاصة عندما تولى الظاهر بيبرس حكم البلاد منذ سنة 658 هجريًّا. 

صوت الراوي في قصة أحمد البدوي وكما يتضح، كان للحسن الأكبر دور كبير في مسيرة السيد أحمد البدوي، ويبدو أنّه أوّل من سلّكه وألبسه خرقة التصوف عن الشيخ عبد الجليل بن عبد الرحمن النيسابوري من المغرب، والأرجح أنّ ذلك في مكة بعد اشتد عود أحمد البدوي، لأنهم لما خرجوا من المغرب كان البدوي في السابعة من عمره فقط، وبهذا يكون الحسن الأكبر أوّل مشايخ البدوي في الطريق. 

ويذكر كتاب "النصيحة العلوية في بيان حسن الطريقة الأحمدية" لعليّ نور الدين الحلبي، أن أحمد البدوي تسلَّك على يد شيخ يدعى "بِرّي" من تلاميذ أبي نعيم الأصبهاني الصوفي، صاحب حلية الأولياء، وكان من أصحاب أحمد الرفاعي. 

غير أن علاقته بأحمد البدوي أخذت منحى آخر بعد وفاة الوالد عليّ البدري، منحى يبدو فيه علو شأن أحمد البدوي في السلوك على أخيه الأكبر الحسن، وقد أدرك الحسن ذلك في لحظة فارقة عندما ذكر له أمر الزواج، فأجابه البدوي: "تأمرني بالزواج وأنا الموعود من ربي ألا أتزوج بالحور العين الحسان؟" قال الحسن: "فلزمت معه الأدب". 

وفي تلك الفترة كان البدوي قد أخذه ما أسماه أخوه الحسن بـ"الوله"، بحسب ما يرد في مخطوط بن أزبك الصوفي، وأوردته أيضًا دائرة المعارف الإسلامية في ما يبدو أنه نقل عن مخطوط "الجواهر السنية" لعبد الصمد المصري. 

ويمكن القول إن صوت الراوي في سيرة أحمد البدوي قبل استقراره في طنطا، هو بلا شك الحسن الأكبر، لذا لم تكن ممكنة معرفة الكثير عن البدوي وحاله قبل مرحلة طنطا، لولا ما روي عن الحسن الأكبر، والذي عمّر لأكثر من 100 عام، وعاش بعد وفاة أخيه البدوي قرابة 10 أعوام. 

مقام سيدي أحمد البدوي

وفي المقابل كان السيد أحمد البدوي يرفع منزلة أخيه، فهو الذي سلّكه أوّل مرة وعرّفه طريق القوم. وكان فارق السن بينهما (13 سنة) يجعل الأخ الأكبر بمثابة الوالد، أو على الأقل الوجيه وصاحب المشورة، ويظهر ذلك مما يُنسَب إلى البدوي عندما يصف أخاه فيقول: "وكان أخي الحسن أكبرنا سنًّا وأرفعنا قدرًا، وقد حوى سائر العلوم، وكان هو الخليفة علينا بعد والدنا"، بل يزيد البدوي بأن جعل لأخيه الحسن الأكبر "القطبانية على سائر الأقطاب". ورغم لزوم الحسن الأكبر الأدب مع أخيه، وهو أدب لمعرفته بمقامه ودرجته، كان دائمًا في مقام الناصح الخبير الذي ينزل البدوي على نصيحته ويقر له بخبرته. 

وصاحَب الحسن الأكبر شقيقه أحمد البدوي في سفره إلى العراق وطوافه على مقامات أوليائها، ووقعت له كرامات في هذه الرحلة، منها أنه خرج عليهما قطاع طريق فطرحهم الحسن الأكبر على الأرض بإيماءة من يده في الهواء. 

ويذهب أزبك الصوفي إلى أبعد من ذلك حين يقول إنهم كانوا أصحاب قطب الزمان وكان القطب بينهم، وإن الحسن الأكبر أومأ بيده وقال لهم: "موتوا بإذن الله" فوقعوا على الأرض كالقتلى، ثم قال لهم: "قوموا بإذن الله من يحيي الموتى ويميت الأحياء" فقاموا صاغرين. 

ويُروى في نفس القصة أنه أوّل من لقّب أحمد البدوي بأبي الفتيان، وذلك لمّا طلب البدوي مقاوم الفتوة، فقال له الحسن الأكبر: "أنت أبو الفتيان". ويتضح من هذه القصة أن أثر الحسن الأكبر في شقيقه واسع الشهرة أحمد البدوي، لم ينتهِ مع حادث "الوَلَه" المذكور بعد وفاة أبيهما، وإنما ظل ممتدًّا، وكان فيه الحسن الأكبر بمثابة الشيخ، بما لا ينفي إدراكه لعلو مقام أخيه الأصغر عليه. 

وهذه من العلاقات الجدلية والمحيرة أحيانًا بين الشيخ والمريد لدى الصوفية، أن يفوق المريد مقام شيخه في حياة عينه، مع لزوم الأدب مع الشيخ، بل ربما بقاء المدد منه كما يعتقد الصوفية، وكما الحال في قصة إعطاء مقام الفتوة للبدوي. 

وفي نفس الرحلة، وبينما كان الأخوان يهمان بالذهاب إلى بلدة أم عبيدة حيث ضريح أحمد الرفاعي، وقعت كرامة أخرى للحسن الأكبر، وهي طي الأرض ليقطعا مسيرة 40 يومًا في 17 خطوة. وطي الأرض هي من أكثر خوارق العادة اشتهارًا عند المتصوفة، ومنها ظهر وصف "أبو خطوة" أو "صاحب الخطوة"، فيبدو إذًا أن الحسن الأكبر كان صاحب خطوة.

كيف نشأت علاقته مع بيبرس؟

ثمة روايتان: الأولى أنه بعد نحو عام من هجرة البدوي إلى طنطا، وفي موسم الحج التالي أي في شهر ذي الحجة سنة 635 نزل بيبرس متخفيًا إلى مكة، فاستقبله الحسن الأكبر وكاشفه بأنه الملك الظاهر بيبرس، فجعل بيبرس يقبل قدمي الحسن الأكبر. 

غير أن هذه الرواية تطوي الزمن طيًّا، ففي تلك السنة كان بيبرس لا يزال في الخامسة عشرة من عمره وربما في العاشرة من عمره، فقد أورد خير الدين الزركلي في الأعلام أن بيبرس ولد سنة 625 هجريًّا. وفي كلتا الحالتين كان لا يزال عبدًا يباع ويشترى ولم يستقر به المقام في القاهرة. 

الرواية الثانية والتي قد تكون أقرب للصحة، أنه في إحدى زيارات الحسن الأكبر لأخيه أحمد البدوي في طنطا، وكانت في سنة 666، قابل الظاهر بيبرس الذي أكرمه وخلع عليه مالاً وعطايا، وقيل إن الظاهر بيبرس كتب كتابًا جاء فيه: "إن الشريف السيد حسن بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر، شريفٌ على الشرفاء وفتى على الفتيان ونقيبٌ على النقباء وزمامٌ على الأزمة وعريفٌ على العرفاء وشيخ على المشايخ وزعيم على الزعماء"، ومن هذا الكتاب شاع أن بيبرس عيَّن الحسن الأكبر نقيبًا للأشراف، وهو ما لا يرد في سجلات النقابة، وهذا صحيح، ويستدلون بذلك على أن قصة لقاء الحسن الأكبر مع بيبرس لا صحة لها، بل يذهب البعض للاستدلال بذلك على نفي صحة أن يكون الحسن الأكبر من الأشراف أصلاً. والواقع كما يتضح من نص مكتوب بيبرس الذي أورده عبد الصمد المصري وأزبك الصوفي والشعراني، أنه مكتوب شرفي، علا فيه من مقام الحسن الأكبر على كل صاحب جاه، فكما قال "إنه نقيب على النقباء" قال: "وعريف على العرفاء وشيخ على المشايخ وزعيم على الزعماء"، وأنه لم يرد أن جعله على نقابة الأشراف في مصر. 

وفي عام 666 هجريًّا كان بيبرس قد أمضى في حكم مصر 7 سنوات، وقد روى عدد من المصنفين أنه لما ذاع صيت أحمد البدوي في طنطا ونواحيها، جاءه بيبرس وكان يقدره وينزله منزلته. 

فلعلّ لذلك كان استقبال بيبرس للحسن الأكبر وتشريفه. في المرويات الشعبية أنه بعد وفاة أحمد البدوي سنة 675 هجريًّا، انتقل الحسن الأكبر إلى مصر مع أهله، وأقام فيها حتى مات. 

لكن ما تذكره المصادر عن موت الحسن الأكبر أنه كان في سنة 685 هجريًّا، ونُرجّح أن قدوم أبو العلا إلى مصر كان في سنة 698 هجريًّا، قياسًا على أنه مات عن 120 سنة وظلّ في خلوته ببولاق 40 سنة، وعليه فإن الحسن الأكبر لم يُقِم في مصر، وأنه مات في مكة ودفن بها. 

ومما قد يستدل به على ذلك، أنه ما للحسن الأكبر في مصر مشهد صغير، وأنه لم يُبن عليه مسجد، ولم يُقم له مولد، ولم تُعرف له حال في مصر أو مريدون، على عكس ابنه الحسين أبو العلا. وعلى الأرجح أن مشهده استحضار لأثر الولي في قلوب المحبين، وأنه ليس ضريحه.  

  • مخطوط “الجواهر السنية في النسبة الأحمدية” لعبد الصمد المصري.
  • كتاب “السيد أحمد البدوي” لشيخ الأزهر الراحل عبد الحليم محمود.
  • كتاب “النصيحة العلوية في بيان حسن الطريقة الأحمدية” لعلي نور الدين الحلبي.
  • الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني.
  • الطبقات الصغرى لعبد الوهاب الشعراني.
  • كتاب “القطب النبوي سيدي أحمد البدوي من فاس إلى طنطا” لأحمد فريد المزيدي.
  • دراسة “السيد البدوي عرض ونقد” للباحث ماجد شاهين عن مركز سراج للدراسات والبحوث.