دروس متطورة في التكنولوجيا السيبرانية: جهادُ خلافة "داعش" الافتراضية!

ذات مصر

  قطع رأس مروّع لمعلم مدرسة بالقرب من باريس، تلاه قطع رأس آخر وقتل في كنيسة نيس، ثم حادث إطلاق نار على قس خارج كنيسة في ليون الفرنسية، ثم هجوم على كنيس يهودي في فيينا النمساوية، كان هذا ملخص موجة العنف الأخيرة في القارة الأوروبية، والتي تلت الأزمة التي خلقها إعادة نشر الرسوم الكاريكاتيرية التي أنتجها مجلة "شارلي إبدو" الفرنسية، وما تخللها من تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن حرية التعبير. 

في الحقيقة، شكل تصاعد موجة الهجمات المنسوبة لمناصري داعش في القارة العجوز مؤشرًا للشبكات الداعشية التي تنشط عبر الفضاء الإلكتروني والتي تُلهم الإرهابيين/ الذئاب المنفردة الانخراط في أعمال العنف، كما اعتُبر دليلاً على نجاح خلافة "داعش" الافتراضية على البقاء والتمدد في الفضاء الإلكتروني، والاستفادة من حالة الحشد العلماني الذي قامت به فرنسا ضد المسلمين هناك. 

ووفقًا لموقع "Homeland Security Today" فإن المواقف الأخيرة لإدارة الرئيس "إيمانويل ماكرون" خصوصًا في أزمة السخرية من النبي محمد، بجانب منع فرنسا للحجاب في المدارس وحظر ارتدائه على الموظفين العموميين في العمل وحظر البرقع الذي يُغطى الوجه حتى في ظل أزمة كورونا، كان لها انعكاس سلبي في أذهان المسلمين هناك، بل واعتبروها عداء للدين الإسلامي، وهو ما استفاد منه تنظيم دعش ووظفه على نطاق واسع عبر شبكاته على الإنترنت، خصوصًا بعد أن تحول من مرحلة الخلافة المكانية القائمة على فكرة مسك الأرض والسيطرة عليها وتأسيس دولة فعلية، إلى مرحلة الخلافة الافتراضية التي تنشط على مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

تجنيد رقمي!

وتسعى خلافة داعش الافتراضية لخلق فئة مدربة عبر الإنترنت من مؤيدي الخلافة المدربين، والمسلحين بالمهارات الرقمية الضرورية للحفاظ على الأمن التشغيلي في أثناء شن الجهاد الافتراضي من خلال فيس بوك وتويتر ويوتيوب، وبقية وسائل التواصل. وعلى سبيل المثال، قدمت مؤسسة آفاق الإلكترونية "Electronic Horizon Foundation" المرتبطة بـداعش دروسًا متطورة في التكنولوجيا السيبرانية، بما في ذلك كيفية الاستفادة من شبكات افتراضية لحماية سلامتهم الرقمية الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، وتجنب المراقبة. 

وبالمثل، تحث المتابعين على تعلم كيفية شن الجهاد الهجومي الافتراضي من خلال دروس فيديو عن أدوات القرصنة المتقدمة مثل لينكس وميتاسبلوت، والخداع الإلكتروني وأدوات استخبارات المصادر المفتوحة. في هذا السياق، وبالدعم التدريبي الذي يلاقونه من داعش، يتدفق العديد من المتعاطفين الأنصار بعد ذلك إلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الدعاية التحريضية لداعش. 

وهكذا، على الرغم من أن عمالقة التكنولوجيا الكبار (كجوجل وفيس بوك وتويتر) وضعوا سياسات إزالة صارمة، فإن براعة داعش التقنية لا تزال تسبقهم بخطوة، فيستفيد الجهاديون الافتراضيون من مهاراتهم الجديدة بالقفز بين المنصات، وجذب الانتباه على المنصات الكبيرة وتشفير المتابعين المهتمين قبل حذف مشاركاتهم.

نشاط شبكات تنظيم الدولة

وبدا في أثناء الأزمة الأخيرة في فرنسا، النشاط الفعال لشبكات داعش عبر الفضاء الافتراضي، فمثلاً طلب أحد مديري مجموعات داعش من أنصار التنظيم الإبلاغ عن قناة "REPORT_ISIS"، المناهضة للتنظيم والمسؤولة عن شن حملات على مواقع التواصل الاجتماعي لإزالة قنواته على تطبيق تيلجرام وغيره.

ونشرت القنوات الداعشية سلسلة من التدوينات تحت وسم "#YouHaveThem" والتي تضمنت تحريضًا مباشرًا على شن الهجمات في الدول الغربية، بدعوى أن أهلها صليبيون وأهانوا الرسول في فصل جديد من حربهم الصليبية المستمرة على الإسلام وأهله. 

وكانت الرسائل الرئيسة لحملة التحريض الداعشية وقتها تركز على الدعوة لـ"سفك دماء الصليبيين" واستهداف مصالحهم في كل مكان وخاصة فرنسا، والعمل على نشر الدعاية الإلكترونية بمختلف السبل لجذب مؤيدين جديد ودفعهم لتنفيذ هجمات على الأرض. 

وعملت شبكات الخلافة الافتراضية على تطبيق تيلجرام للتواصل الاجتماعي المشفر توفير أرقام اتصال وهمية مجانية لتسجيل ومصادقة حسابات تيليجرام، وما إلى ذلك، بالإضافة إلى التهرب من كشف على بطاقات تليفوناتهم المحمولة وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي المجانية لتعظيم مشاركة أنصار داعش، لأن حسابات وأرقام مواقع التواصل الاجتماعي المجانية التي يوفرها داعش لا تلزم الداعمين بتسجيل بأرقامهم الحقيقية على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وبالتالي تخفيف مخاوفهم الأمنية، وانتشار حربها على وسائل التواصل الاجتماعي ضد فرنسا. 

كما هدد مناصرو داعش الغاضبون بمزيد من الهجمات والمذابح وإراقة الدماء ضد الشعوب الأوروبية، باستخدام وسوم (#get them oh monotheist, #hunt them mujahedeen, #getthemunified, #crusader France)، وبدا أن هؤلاء العناصر يتابعون جيدًا أنباء الهجمات الإرهابية، ومركزون على الدعوة لمزيد من العدوانية والوحشية في مختلف الدول الأوروبية، إضافةً للعمل على استقطاب عناصر جديدة.

تطبيق تليجرام - صورة تعبيرية

محتوى إرهابي للذئاب المنفردة

وفي الواقع، أدت الهجمات الأخيرة، إلى جانب إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية، إلى تسريع وتيرة ظهور محتوى متطرف للذئاب المنفردة (الجهاديين المحليين) على القنوات الداعمة لداعش، والتي تضمنت نصائح للأمن الشخصي والتنظيمي بجانب الإجابة على أسئلة مثل "أين تعمل الذئاب المنفردة؟" و"هل كل الدول مناسبة لساحة المعركة؟" ومع ذلك لا يؤيد موقع "Homeland Security Today" تصنيف منفذي الهجمات الإرهابية الأخيرة على أنهم "ذئاب منفردة" مستدلاً بمتابعتهم للرسائل الدعائية التي تقدمها شبكات الخلافة الافتراضية. 

وتضمن تلك الرسائل المنشورة عبر الإنترنت رسومًا بيانية (إنفوجراف) مفصلة باللغة الإنجليزية حول أخذ الرهائن، وهجمات الحرق العمد، وهجمات السكاكين، بما في ذلك النصائح حول اختيار السكين لضرب أجزاء مختلفة من الجسم، واختيار الأسلحة والمركبات، في المقابل كانت المنتديات العامة المرتبطة بالقاعدة أقل نشاطًا في نشر محتوى مناهض لفرنسا، وهو ما يوحي بأن نشاط "الخلافة الافتراضية" لا يزال الأبرز على ساحة الجهاد المعولم. 

وفي نفس السياق، وزع "مركز الحقيقة" الإعلامي التابع لتنظيم الدولة الإسلامية نصًا من 6 صفحات بعنوان "فرنسا الصليبية وكراهيتها ضد الدول الإسلامية"، يتعمق في تاريخ اضطهاد فرنسا للمسلمين، ويلعن نابليون لإلحاده، ويثير تساؤلات حول الاستعداد الأمني ​​للحرب، كما نشر المركز مقالات تفيد بأن ماكرون "شخصية ضعيفة هشة وغير قادرة على حل أزمة الشعب الفرنسي البائس". 

ويكمل أن "جنود فرنسا قُتلوا في جميع الأماكن، وحيثما هبطت فرنسا بجيشها، سيلاقيهم جنود الخلافة، حتى في منازلهم، ذلك أن جنود الخلافة سنّوا سكاكين الذبح على أعناق كل من هاجم المسلمين. أين هو الأمن الذي يتحدثون عنه في وسائل الإعلام الخاصة بهم؟" وينتهي المقال بدعوة كاتب داعش "أهل الإسلام" لتفجير البعثات الدبلوماسية الفرنسية وجمعيات الإغاثة حول العالم، وتخريب البنية التحتية الفرنسية العامة، ودهس المواطنين الفرنسيين بالسيارات، وطعنهم بالسكاكين. 

أبو بكر البغدادي

قنوات التليجرام العربية

وبصرف النظر عن اللعب على الحساسيات الدينية لمؤيديها وتحويل انتباهها عن المجتمع الفرنسي، حولت قنوات التليجرام العربية التابعة لداعش طاقاتها أيضًا نحو ما سمته بتضليل قناة الجزيرة بعد استضافتها للرئيس الفرنسي، باستخدام الوسم # Aljazeera pawn ، و # the abuse of Messenger. 

وألقت الرسائل باللغة العربية على تليجرام باللوم على قناة الجزيرة لتقديمها منفذًا لماكرون لتهدئة التوترات مع العالم الإسلامي وبث تصريحاته المثيرة للجدل عن الإسلام. وكان خطاب داعش هذا يهدف أيضًا إلى كشف ما وصفته بمؤامرة "الجزيرة" التي اتهمتها بلعب دور وظيفي في إثناء الشباب المسلم عن الجهاد العنيف. 

كما قام أنصار داعش على قنوات تليجرام العربية بتشويه واستغلال تعليق وزير الداخلية الفرنسي حول الهجمات المستقبلية، ما أدى إلى تأجيج الرواية القائلة بأن الغرب يريد الاستمرار في إخضاع المسلمين ومهاجمة الإسلام. 

وهكذا، فإن الحجج القديمة التي يستخدمها تنظيم داعش والجماعات الجهادية الأخرى كسلاح خطاب حرب الغرب الصليبي ضد المسلمين، والتدخلات الطويلة الأمد والدعم الغربي للقادة والرؤساء العرب، والقهر الإمبراطوري للمسلمين على أيدي الدول الغربية، كانت كلها تستخدم مرة أخرى لتعزيز سردية روايتهم وإقناع المؤيدين بأنهم على الجانب الصحيح من حرب الحضارات هذه. 

وبرزت، خلال الحملة السابقة للخلافة الافتراضية، إحدى القنوات الداعشية عبر تطبيق تيلجرام (أعضاؤها نحو 17 ألفًا) وهي مسؤولة عن الحرب النفسية وتركز على تشويه خطاب السياسيين الغربيين لتلائم الرواية الجهادية المتشددة. 

وتُضخِّم مجتمعات أنصار داعش عبر الإنترنت العلامة التجارية/ الجهادية لداعش بلا هوادة من خلال استيعاب ونشر الخطابات الأيديولوجية والإقليمية للتنظيم، وإعادة نشر الأخبار والإصدارات الإعلامية والرسائل الصوتية والصور ومقاطع الفيديو من المنافذ الرسمية لداعش. 

مثل وكالة أخبار ناشر، وفرسان الرفع، والتي تتولى​ إعادة إنتاج مقاطع فيديو داعش البشعة وتداولها بكثرة مع اقتباسات من القادة، والتعليق على الأحداث الجارية، ومشاركة أناشيد داعش، وخطابات القادة، ومقاطع الفيديو الخاصة بالتنظيم، ومناقشة الاستراتيجيات العسكرية، وبالتالي بناء واستدامة الخلافة الافتراضية لداعش.

ومن المؤكد أن داعش استعاد ريادته في النشاط عبر الفضاء الإلكتروني، ونجح في تأسيس العشرات من القنوات الجديدة  خصوصًا على تطبيق تيلجرام، بعدما أزالت إدارت التطبيق الكثير من هذه القنوات في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وكادت حملة "تيلجرام" أن تقضي على وجوده على التطبيق. لكن التنظيم نجح في مواصلة بث الرسائل الدعائية عبر التطبيق وخصوصًا باللغة العربية، وهو ما يعزز فكرة "شن جهاد افتراضي مثمر" في مرحلة ما بعد الخلافة المكانية. 

وينظر عناصر وأنصار التنظيم الإرهابي إلى تطبيق تيلجرام على اعتباره الخيار الأمثل لجميع اتصالاته الاستراتيجية، لأنه يسمح بنشر الوسائط المتعددة بجانب توفير خيارات اتصال لا تحصى من القنوات المفتوحة والمجموعات الخاصة والمحادثات السرية عالية التشفير، إلى جانب أرشفة الوسائط وخيارات حفظ الملفات الكبيرة، ما يجعل من التطبيق حلقة محورية في الإطار الأكبر لاستراتيجية الاتصالات الرقمية لداعش. 

وتتضمن استراتيجيات داعش الجديدة المستخدمة للتسلل عبر ثغرات المراقبة على التطبيق وبالتالي الحفاظ على وجودها طويل المدى على المنصة، استخدام أسماء بكلمات رئيسة خاصة (jîh @ đ) (dabeq- لـ dabiq) وأسماء عشوائية طويلة للقنوات العامة (dy21ggg @) للتهرب من الاكتشاف بواسطة محركات البحث، وتغيير الروابط باستمرار للمجموعات الخاصة بحيث تصعب مواكبة أي محاولات إزالة، وتشكيل قنوات احتياطية لكل مجموعة جديدة، والحفاظ على قناتين منفصلتين (واحدة عامة وأخرى خاصة) بنفس الاسم.

قناة "Report Isis"

وفي الأيام الأخيرة، أوعز تنظيم الدولة الإسلامية على مجموعاته أيضًا أتباعه إلى الإبلاغ عن قناة "Report Isis" التي لعبت دورًا أساسيًّا في القضاء على العديد من قنوات داعش. 

وكانت نتيجة حملة تقرير الحرب الخاطفة أن هذه القناة الدعوية التي أُطلِقت لقمع داعش ومحاربة الإرهاب عبر الإنترنت قد جلات إزالتها نفسها في غضون يومين بعد التقارير الجماعية لهذه القناة من جانب أنصار داعش! علاوة على ذلك، لا يمكن إنكار أن تليجرام لا يزال يعمل كمنصة شعبية لداعش قبل أن ينتقل محتواه إلى منصات التواصل الاجتماعي الأخرى. 

كما أن الارتفاع الصارخ في استخدام داعش لتليجرام يضمن أيضًا أن يظل وجود داعش متحفظًا جزئيًّا ويواصل تقديم محتوى منظم لأتباعه.

ويبدو أن داعش صارت لديه القدرة على التحول إلى قيادة مركزية غير رسمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لداعش، كما يندفع في نفس الوقت للعثور على ملاذات آمنة جديدة وتجربة مع أخرى أقل مثل منصات المراسلة المعروفة  (مقل روكيت شات وتام تام). 

والآن ينخرط نشطاء الإعلام والداعمون في المجموعات في نقاشات حول قابلية البقاء ونقاط ضعف الأمن السيبراني لبرامج مُراسَلة أكثر شعبية.

في المقابل لم تتعطل آلة داعش الدعائية المتركزة داخل الفضاء الإلكتروني في ظل الأزمة الأخيرة في فرنسا، فرغم حظر 1338 حسابًا لداعش في 3 أيام بعد "هجوم نيس" لم يتعطل تدفق المعلومات والدعاية الخاصة به، وهو ما يدل على أن الخلافة الافتراضية تتمتع بمرونة وتوظف دائمًا استراتيجيات وسائط بديلة فاعلة تطيل بقاءها بل وهيمنتها على الدعاية الجهادية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

وفي حين تواصل الحكومات الأوروبية مواجهة داعش بنفس الوسائل والتكتيكات، أثبتت الوقائع المتعاقبة أن خلافة داعش الافتراضية مستمرة وباقية وتتمدد.