هشام الحمامي يكتب: إيران وإسرائيل.. وهذا «التنحنح المحرج» لها ولنا

ذات مصر

إذا جاز لنا أن نعتبرها (فرقانا) كما هي (طوفان)، فلن نبتعد كثيرا عما هو حقيقي في وصفها والاقتراب من عين عين حقائقها، وسيكون كل ما يأتي بعدها من أحداث في الشرق الأوسط موصولا بها، وسنعرف كل يوم أن (طوفان الأقصى) كانت اختيارا موفقا رغم كل ما بها من آلام وأحزان. لم تكن قفزة في الظلام كما قال لنا الأستاذ فهمي هويدي حفظه الله، كانت ضرورة قصوى لنا أجمعين. 

***

لم نكن ننتظر الكثير من كل الأطراف صاحبة الصلة بهذا الصراع الذي فٌرض علينا من القرن الماضي، وسنترك للتاريخ الحكم على مواقفهم التي اختاروها، لأن الصراع في طابعه صراع تاريخي كبير، نعم! من بداياته الأولى كان كذلك، وهو إلى الآن كذلك. 

إذ إنه جاء أصلا من قلب التاريخ الممدود بيننا وبينهم، والأهم أنه موصول في ذلك بالدين. وهل كان الشرق شرقا إلا بالدين؟ 

وهو بذلك سيصطحب كل الأطراف فيه، شاءوا أم أبوا. ومهما حاولوا تجاهل جملة (دولة يهودية) في قلب الشرق الإسلامي. فلن يكون هذا التجاهل جهلا فقط في حق أنفسهم، وبحقيقة أنفسهم، وبمصالح أنفسهم، بل جهلا بحقيقة وجودهم ذاته. 

وها هي أمريكا بحزبيها الجمهوري والديمقراطي ترسل لإسرائيل أسلحة بقيمة 19 مليار دولار لاجتياح رفح والقضاء على حماس. لماذا؟ حماية للحضارة الغربية التي أصبحت مكشوفة وعارية بسبب مقاومة غزة وصمود حماس! فإما أن تزول (الدولة اليهودية) خادمهم المطيع، وإما تزول مقاومة (الشرق الإسلامي) غزة. 

ولو عادوا إلى مفكريهم وفلاسفتهم. لعلموا أن الله خلق كل شيء فقدره تقديرا. ليس كما نعلم نحن يقينا واعتقادا ولكن كما جاءتهم أخبار الأولين. المفكر الفرنسي شاتو بريان مثلا، قال لهم عن نابليون: إنه رغم حقارته وضآلته، كان أداة ضرورية من أدوات القدر. 

***

ليست المرة الأولى التي يتلاعب فيها الطرفان بعضهما ببعض (إيران والغرب)، فخلال العقود الأربعة الماضية تلاعبا كثيرا من قبل، وسيظلان يتلاعبان هكذا إلى أن تجدّ على الأحداث أحداث، ويتطور التلاعب إلى كل ما هو ممكن ومفيد لهذا الشرق الحزين. 

 7 أكتوبر فتحت كل الملفات المغلقة، ليتأكد لنا دوما أنها كانت ضرورة تاريخية قصوى، وسيقدرها التاريخ كل التقدير، لأنها اعتمدت أهم أدواته ومفاعيله، وهو المبادأة والإقدام وصنع الأفعال، بعدما ضاق بنا ومنا وكاد ينكرنا، من طول محيانا في ردود الأفعال. 

وحسنا فعل الرئيس التركي أردوغان حين علق على القصف الإسرائيلي الأخير على إيران بقوله: إيران وإسرائيل كلاهما يكذبان، ولا يقولان شيئا منطقيا يمكن تصديقه، ولا داعي للانشغال بكلامهما. 

التصريح واعٍ وناصح، بقدر ما هو عارٍ وفاضح، فكأنه يقول: ما يعنيهما يخصهما بدرجة أكبر كثيرا مما يخصنا. 

فهل هذا ما كان يعنيه أردوغان بالفعل؟ 

دعونا هنا نسأل عن المسافة التي يقفها الرجل من الطرفين، المسافة التي بينه وين إيران طويلة وبعيدة بمقتضيات كثيرة. والمسافة التي بينه وبين إسرائيل أطول وأبعد بمقتضيات أكثر. 

***

الحديث عما هو (تركي/ إيراني) سيستغرق ثواني معدودة إذا ما تم وضعه في سياقه الرشيد وأخذناه في مواجهة مباشرة مع الحقيقة التاريخية، متجردين فيه من كل حكايات أبي الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني! متسائلين في دهشة عما إذا كان لا يزال هناك قيمة اعتقادية واستراتيجية في مسألة السلطة والسياسة والإمامة من العهد الأموي حتى الآن! لنظل نحملها معنا في مواجهة أعتى مسؤولية يفرضها علينا الآن، والآن بالذات. الاعتقاد بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.

ليس فقط لأن ذلك حقا وعقلا وصدقا واجب حضاري وتاريخي. ولكن لأنه أيضا واجب ضخم تجاه (الإنسان) الذي تتم الآن استباحته وتدميره وتقطيع عراه، عروة عروة، فوق كوكب الأرض. 

***

فأنت تتحدث عن حضارة ترفض الإنسان وتنكره وتعاديه وتتربص به كل أنواع الأذى والضرر. وحضارة لا ترى الوجود إلا من خلال قيمة الإنسان، تعليه وتناصره وتدعوه إلى كل المكارم. ورحم الله أستاذ الأساتذة د/ عبد الوهاب المسيري فيما قاله على لسان هذه الحضارة في كتابه الأروع (دفاع عن الإنسان) الذي أصدرته دار الشروق سنة 2003م.

ونظرة سريعة وعميقة وجادة على اللحظة القائمة وأهميتها البالغة، سنكون بها وفيها أكثر شرفا واحتراما في عين التاريخ، وفي عين الأجيال التي ستأتي بعد هذا التاريخ، وتتعرف منا وبنا على العقل الواعي والإرادة كيف تكون. 

***

الحديث عما هو (تركي/ إسرائيلي) سيطول ويمتد وينعطف في كل الاتجاهات العكسية والضارة، ليس فقط لكونه معقودا بألف عقدة وعقدة. ولكن لأنه يجسد التناقض كله تجسيدا تاما. تناقض تاريخي؟ نعم. تناقض موضوعي؟ نعمين. تناقض استراتيجي؟ ألف نعم ونعم. 

وأصدقاؤنا في تركيا نعرف أعذارهم الحرجة التي حملوها رغما عنهم، حمولات تاريخ لا يُنسى ولا يزال يلوح ويُحلق فوق الجميع، وحمولات جغرافية لا تنكر (في القلب بين البينين). 

ويكفي رفض إسرائيل لتركيا وروسيا في ضمان وقف إطلاق النار، إنه الغرب الذي (تخدمه) إسرائيل هو ذا الذي يرفض. إسرائيل فقط (جماعته الوظيفية) وخادمته التي تنوب عنه في أدواره الأكثر قبحا وقسوة. 

وحسنا فعلت حماس باستدعاء روسيا هنا. ليس تلبيسا لها وتدبيسا، ولكن لأن (طوفان الأقصى) قامت لتصنع التاريخ وتوجهه. 

الاستكبار الذي نراه عند الغرب وإسرائيل الآن، حدثنا عنه القرآن من أخبار الأمم القديمة. (مش مصدقين). والإبادة والتدمير والتقتيل والتهديم وكل ما يخطر وما لا يخطر ببال الذئاب والضباع وحتى الغوريلا، ما هو إلا استغراق في حالة (الإنكار). 

الملك القدوس العزيز الحكيم قال في آخر وحي نزل على آخر رسول: (ونريد أن نَمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). 

وأستحلفك الله يا من تقرأ هذه السطور، أن تفتح تفكيرك وخيالك على كل أبواب الوجود، لتتأمل كلمة (ونريد)! وتسأل في يقين: من الذي (يريد)؟ 

نعم تفكيرك وخيالك. وهل الإنسان إلا تفكير وخيال؟ والباقي ما هو إلا (قولون ومثانة)! مع كل الاعتبارات للسادة الزملاء. 

***

أمر معيب في الحقيقة أن تكون رجلا (موضوعا). ولكن في غير موضعه يكون، أن تكون ذلك الذي لا يفعل عندما يمكنه أن يفعل، ولا يفعل عندما يريد أن يفعل! كما تقول الأغنية الإنجليزية القديمة. 

إيران في موقف (أكبر) كثيرا من تركيا، لكنها اختارت الاختيار (الأصغر) لنفسها.

أفقها ضاق في اللحظة الأكثر خطأ وخطرا. وكان يمكنها أن توظف حادثة (قنصلية دمشق) بأفضل ألف مرة ومرة، من هذا الذي كان منها وكان يتوجب لها ولنا. ويستطيع الإنسان هنا تخيل (التنحنح المحرج) لها وسط هذا الفيضان الذي يفيض بكل جديد. ولم تستوعبه بما يكفي. 

لكن الرئيس أردوغان أحد فطاحل السياسة في هذا القرن. كشف الموقف في حقيقته، وعلى ما هو عليه بالفعل حين قال إن إسرائيل وإيران (لا يقولان شيئا منطقيا يمكن تصديقه). 

لم تكن القصة إذن إلا عبث صغار. وفي أوقات الخطر لا تكون أفعال الصغار إلا عبثا صغيرا ومؤذيا، وإذا أردت فهو أيضا مريب.

أخاك الحق من يسعى معك ** ويعطيك شمل نفسه ليجمعك.