الثقافة الغيبية والتصوف الطُّرُقي في مسلسلات الدراما

ذات مصر

من المعروف أن القراءة – مع الأسف- تعد أمرًا ثقيلًا على نفوس الكثيرين من أبناء المجتمع المصري؛ فهي ليست هواية ولا عادة مدرجة ضمن النشاط اليومي عند أغلبية فئات المجتمع؛ ومن هنا أصبحت وسائل الإعلام هي وسيلة التثقيف الوحيدة بما تحتويه من برامج ومسلسلات، وهي أداة تشكيل الوعي في مجتمع لا يجد أفراده أية متعة في قراءة الكتب.

ومع غياب الحس النقدي والرغبة في التفكير يصبح المسلسل الدرامي هو المرجعية التي يستند إليها المشاهدون في صنع رؤاهم وتصوراتهم الخاصة وتطفو على السطح ظاهرة يمكن تسميتها بـ"عبادة الإعلام المرئي"! 

فإذا أردنا أن نجري عملية استقراء تفصيلية للمسلسلات الدرامية التي أنُتِجَت في العقد الأخير فإن هذا يتطلب منا وقتًا ومجهودًا وأيضًا قدرة على تحمل الملل لأن بعض المسلسلات – وهذا مما لا يخفى- مصابة بالترهل الدرامي وبعضها الآخر يحمل قدرًا من السخافة والعبثية أو التطويل غير المقبول "المط".

على أن الملاحظة التي لا تخطئها العين في هذه الأعمال هي اعتمادها الكبير على عنصر "المحاكاة" فهي لا تريد تغيير الواقع عن طريق نقده؛ وإنما تعمل على تقليده بكل ما فيه حتى بالمفردات السوقية التي انتشرت بين أبناء الشارع المصري.

وبهذا أصبحت المسلسلات نسخة مصغرة من الواقع المريض، فهي لا تواجه البلطجة والسلوك الهمجي وغياب العقل وتفشي الأنانية والشُّح والغدر والعري والبذاءة، ولا تناقش ظاهرة التفكك الأسري وانتشار الطلاق؛ ولكنها فقط تنقل هذه المظاهر في محاولة تقرب مكشوفة للمشاهدين، وكأنهم حين يرون واقعهم مجسدًا على الشاشات سيقبلون على هذه الأعمال الدرامية باعتبارها تناقش قضاياهم، والحقيقة أنها لا تناقش وإنما تحاكي مظاهر الأزمة وتزيدها رسوخًا لأن المشاهد يتأثر حتمًا بكل عمل درامي يشاهده حتى وإن لم يشعر.

التصوف والدراما المصرية:

ويلاحظ أيضًا على المسلسلات الدرامية في العقد الأخير انتشار المفاهيم الصوفية المبثوثة في المشاهد والحلقات، ويمكن استحضار نموذج أعمال السيناريست "عبد الرحيم كمال" عند الحديث عن توغل المفاهيم الصوفية في أعمال الدراما، فعبد الرحيم كمال يعد الآن أحد أشهر كتاب الدراما في مصر، وأبطال مسلسلاته هم نجوم الصف الأول، ولا يخفى على المتتبع لهذه المسلسلات أنها جميعًا ترتبط مع بعضها البعض بحيث يظهر فيها الخط الصوفي الذي يعكس معتقدات كاتبها التابع لطريقة الشيخ "صلاح الدين التيجاني" الطبيب الذي من المفترض أنه يحمل قدرًا من الثقافة العلمية لكنه آثر اللجوء للروحانيات وأصبح شيخ طريقة صوفية.

وطريقة "التيجاني" هي إحدى أشهر الطرق الصوفية في الوقت الحالي وتعود شهرتها بطبيعة الحال إلى استقطابها لعدد غير قليل من الفنانين وبعض وجوه المجتمع، واللافت للنظر أنها استقطبت أيضًا بعض أصحاب الأقلام مثل الكاتب "عمر طاهر" وظاهرة لجوء المثقفين حاليًا إلى التصوف أصبحت أمرًا يستدعي النظر؛ لأن الخط الفكري الذي سار عليه أغلب مثقفينا أو كلهم في الحقيقة ولفترة طويلة منذ مطلع القرن العشرين هو الخط العقلاني والعلمي؛ أما أن يتجه المثقف إلى التصوف بحيث يعتقد بالأفكار الصوفية كلها دون مناقشة فهذا مما يستوقف الناظر للمشهد الثقافي الراهن.

وقد كان الأدباء والشعراء يستعيرون في أعمالهم الإبداعية بعض المفردات الصوفية وبعض اللمحات الوجدانية الشائعة عند المتصوفين، وكان الأقرب إلى المبدع هو التصوف الفلسفي ومن أقطابه "محي الدين بن عربي" و"جلال الدين الرومي" و"صدر الدين القونوي" و"السهروردي المقتول" أما أن يلجأ الكُتَّاب إلى التصوف الطُّرُقي فهذا بلا شك مما يفرض علينا أن نضع أكثر من علامة تعجب واستفهام.

إن الثقافة الأدبية والعلمية تجعل من الصعب بل والمستحيل على روادها أن يندرجوا تحت لواء طرق تقوم على الغيب المطلق وإقصاء التفسير العلمي القائم على السببية وأن لكل ظاهرة موضوعية أسباب موضوعية، وتعتقد بما يسمى بـ "العلم اللدني" الموهوب من السماء لأهل التقوى والولاية، كما أن الخضوع الكامل لشيخ الطريقة أمر لا يتفق مع اعتداد المثقف بنفسه، ومع حرية المبدع التي لا يمكنه العيش بدونها ولا يمكنه أيضًا أن يكتب وأمامه خطوط حمراء ومحاذير عليه اجتنابها وإلا تعرض للغضب والمقت وسوء المصير.

 وأنا هنا لا أناقش صحة أفكار الطرق الصوفية ولا أقول إنها "بدعة" فليس هذا مما أستهدفه في هذا المقال؛ بل أتساءل فقط عن كيفية لجوء المثقف إلى هذه الطرق رغم ابتعاد أفكارها الواضح عن مفاهيم الثقافة الحديثة، علمًا بأن كثيرًا من مشايخ الطرق ومريديها لا يحملون فكرًا من أي نوع حتى الفكر الصوفي؛ حيث تشيع فيهم الأمية الثقافية ولا يعرفون عن التصوف إلا بعض المظاهر الموروثة والطقوس المتداولة مثل "الحضرة" و"المولد".

ورغم كل ما سبق لجأ بعض المثقفين إلى التصوف "الطُّرُقي" وكم كان غريبًا أن نرى أحد أشهر النقاد في الوسط الثقافي ينضم إلى الطريقة الأحمدية البدوية بعد أن كان ماركسيًا "شيوعيًا" والأعجب من انضمامه إلى أتباع "السيد البدوي" أنه نشر على صفحته بـ "الفيس بوك" منشورًا يتكلم فيه عن شيخه بعد وفاته فيقول إنه بدلًا من صعود روحه إلى الجنة، فإن الجنة هي التي هبطت إليه!!

الولاية وتحقيق الآمال في مسلسل "شيخ العرب همام":

ونعود إلى السيناريست "عبد الرحيم كمال" الذي عمل على نشر أفكاره الصوفية من خلال عدة مسلسلات شهيرة، منها – على سبيل المثال- مسلسل "شيخ العرب همام" وقد تعاون فيه – كما نعرف- مع الفنان "يحيى الفخراني" وفي هذا المسلسل تظهر شخصية "سلام" شقيق "همام" وهو كما يبدو "خفيف العقل" غير أنه قريب من ربه وطيب القلب ونقي إلى أقصى درجة فكأنه ملاك يتجسد في صورة إنسان، فكأن المؤلف يريد أن يوحي لنا بوصول "سلام" إلى "الولاية" كيف لا وهو "بتاع ربنا" ومحبوب من الناس، والدليل على ولايته أن الله حماه حين كان في سجن القلعة فلم يتمكن جنود "علي بك الكبير" من التعرض له بسوء.

ولا يتوقف المسلسل عند هذا، وإنما يبث مفهومًا صوفيًا آخر يظهر لنا من المشهد الذي فوجئ فيه "شيخ العرب" من ضياع الزاد والمال في رحلته لزيارة مقام "الشيخ عبد الرحيم القناوي" فيضطر للعمل في سقاية الماء حتى يستطيع العودة إلى "هوارة" وهنا تتحطم صخرة كبرياءه فيتربي ويتخلى من أجل أن يتحلى، فلما ذهب كبرياؤه جاءته البشارة بإنجاب زوجته مولودًا ذكرًا بعد سنوات من الأمل في الإنجاب، وهذا بعد العمل في السقاية تحت رئاسة شخص بدا وكأنه يتأمَّر على همام وأخيه إلا أنه في الحقيقة "ولي" وله سر وكل من يشرب من قِربته تتحقق آماله كما حدث لشيخ العرب!

وهكذا بث فينا المسلسل شيئًا من الثقافة الغيبية ورسخ مفاهيم ارتباط الولاية بضعف الإدراك العقلي، وفكرة الاعتماد على "الحلول السحرية" للوصول إلى الأحلام؛ مع أن كثيرًا من الناس يذهبون إلى الأضرحة ويطلبون المدد من الأولياء ثم لا يتحقق أي شيء مما أمَّلوه، لا مال ولا ذرية ولا نجاح ولا نصرة على الأعداء الظالمين.

الأضرحة في مسلسل "الخواجة عبد القادر":

مرة أخرى ينشر "عبد الرحيم كمال" أفكاره الصوفية، وهذه المرة مع مسلسل يصور تغير حياة رجل غربي ملحد كبير في السن ومحب للخمر ويعتقد بعبثية الحياة ويرغب في الموت أو بالأحرى يتمنى قدومه، ثم تتغير حياة هذا الرجل بعد معاشرته للناس في الصعيد ويدخل الإسلام وينضم إلى طريقة صوفية فيمتلئ قلبه بالمحبة والحكمة.

وطوال أحداث المسلسل تجري مناقشة قضية "الأضرحة" ونحن نطرح على "السيناريست" سؤالًا عن موضوع الأضرحة: هل لهذا الموضوع علاقة حتمية بالتربية الأخلاقية التي يقوم عليها التصوف؟ بتعبير آخر: هل يمكن لمن لا يقتنع بالأضرحة ومن فيها ويرى حرمة بناء الأضرحة أو خلوها من الجدوى، هل يمكن له أن يتلقى تربية صوفية أخلاقية؟ أم أنه لكي يتهذب سلوكه عليه أن يقتنع بأهمية الأضرحة وسكان القبور؟؟؟

وسؤال آخر عن الأغاني المأخوذة من أشعار لـ "الحسين بن منصور الحلاج" الذي قال "أنا الحق" وفهم الكثيرون من هذا أنه يدعي الألوهية، ولو سلمنا بأنه يريد القول بانعدام ذاتيته حيث فَنِيَ في محبوبه الأقدس وهو الله سبحانه؛ فإنه لمن المثير للتساؤل استعانة المؤلف بأشعار الحلاج المختلف عليه مع وجود الكثير من الشعر الصوفي عند غيره من شعراء الصوفية ومشايخهم الذين لم يُفهَم من كلامهم ادعاء الألوهية أو النبوة.

  • مسلسل "ونوس" والحضرة التي أنقذت "نبيل الحلفاوي"

ياقوت "نبيل الحلفاوي" يبيع نفسه للشيطان في مقابل الحصول على المال والتمتع بالحياة، ولكنه بعد صحوة ضمير يعلن توبته ويريد الخروج من عباءة الشيطان "ونوس" أو "يحيى الفخراني" ومع تصاعد الحبكة الدرامية التي تظهر لنا ذلك الصراع الأزلي بين الشيطان والإنسان.

يأتي مشهد النهاية حيث يطلب "ونوس" من ياقوت أن يوقع على معاهدة خضوع ويهدده بالقتل وتوالي المصائب والنكبات على أبناءه، ثم نرى قطعًا يظهر فيه الدراويش وهم يستغيثون بالله من أجل "ياقوت" ويتلون "اللطيفية" أي يذكرون الله باسمه "اللطيف" حتى يلطف بياقوت، وينجو ياقوت في اللحظات الأخيرة وتكون نجاته بموته قبل التوقيع مع قبول توبته التي أغاظت الشيطان جدًا، وطبعًا السبب في نجاة ياقوت هو الحضرة التي قرأ فيها الدراويش وِرد "اللطيفية".

وهنا يروج السيناريست لمفهوم الحضرة والذكر على الطريقة الصوفية.

  • مسلسل "جزيرة الغمام" وارث مقام الشيخ هو آخر من توقعه الناس:

ومن الممكن قبل الختام لنا أن نستحضر نموذج مسلسل "جزيرة الغمام" لكاتبه "عبد الرحيم كمال" فهو مسلسل صوفي من أوله إلى آخره، ويتكلم عن "عرفات" الذي يجسده "أحمد أمين" وهو كما يبرزه المؤلف خليفة الشيخ الحقيقي بخلاف الظاهر للناس، ودائمًا في الخطاب الصوفي سنجد فكرة الظاهر والباطن كما اتضح لنا في مسلسل "شيخ العرب همام" فالظاهر فيه أن الرجل السقاء يذل شيخ العرب ويتأمَّر عليه؛ لكن الباطن أنه بفضل الشرب من قربته جاءه الطفل الذي تمنى إنجابه.

هذه الفكرة أعني "الظاهر والباطن" مأخوذة من قصة العبد الصالح أو "الخضر" مع النبي موسى عليه السلام؛ حيث يظهر لسيدنا موسى أن الخضر قتل الغلام البريء وخرق السفينة وأقام الجدار بدون أجر لأهل القرية البخلاء الذي رفضوا أن يضيفوه، والحقيقة أن هذه الأفعال الثلاثة وراءها حكمة ومعاني مستبطنة لا يعرفها إلا أهل الحقائق أو أهل الباطن.. هكذا فهم الصوفية قصة موسى والخضر، ولهذا قسموا الدين إلى ظاهر وهو الفقه وباطن وهو الحقيقة أو "التصوف".

والظاهر في مسلسل "جزيرة الغمام" أن "عرفات" مستبعد من خلافة الشيخ حيث لم يرث منه إلا "مسبحته" لكن الحقيقة أن هذه المسبحة رمز لوراثة حال الشيخ؛ فهناك من ورث من الشيخ "المنزل" أي لم يأخذ منه إلا النصيب الدنيوي، وهناك من ورث عنه إمامة المصلين في المسجد، وهي إشارة لأهل الظاهر أو الفقهاء، فالشعائر عند الصوفية ليست في درجة الأعمال القلبية؛ أما "عرفات" فقد ورث من الشيخ "قلبه" وحب الجميع له.

ومن الواضح أن منزلة الشيخ عند الصوفية ومنهم كاتب المسلسل منزلة كبيرة جدًا لدرجة منح الاهتمام الكبير لمعرفة من يخلفه ومن الأجدر بهذه الخلافة، كما يبدو أن أن مفهوم "الشيخ" عند الصوفية يقترب من مفهوم "الإمام" عند الشيعة.

وهكذا استطاع المؤلف أن يبث أيديولوجيته الصوفية في ثنايا مشاهد أعماله الدرامية وأن يجعل من الممثلين أدوات لنقل المعتقد الصوفي إلى الجمهور، ولم يعد خافيًا أن هذا المعتقد يُرَوَّج له الآن باعتباره البديل الآمن لفكر "الإسلام السياسي" ولكن هناك بديل آخر ربما يكون أكثر أمانًا وأقرب إلى روح العصر وأكثر نفعًا للجمهور، وهو طريق الثقافة ونشر الوعي ومناقشة القضايا الاجتماعية بالمنهج العلمي، والعمل على الإصلاح الخلقي بدون وعظ..

ترى لماذا لا يفكر كتاب السيناريو والمخرجون في خوض هذا الطريق كما فعل مثلًا "أسامة أنور عكاشة"  في كل مسلسلاته؟؟ هل لابد لكل مسلسل حتى ينجح أن يحاكي الواقع السيء أو يخوض في بحر التصوف حتى ينجح؟ ألا يوجد طريق ثالث؟؟