علي الصاوي: «تكوين».. مَن يدفع للزمَّار؟

ذات مصر

عند المقارنة بين الرعيل الأول في ميدان الفكر والثقافة الذين شكلوا وجه الحياة السياسية في مصر وصنعوا نهضة ثقافية حقيقية، ومَن يُطلقون على أنفسهم في عصرنا الحالي رواد تنوير وحاملي مشاعل الإفاقة وآليات التحديث، تجد البون شاسعا بين الفريقين، سواء في طبيعة الأفكار المطروحة وعمق مناقشتها والإلمام بدقائقها واكتمال أدواتهم النقدية والفكرية مع سمة التجرد التام من أي غرض أو مآرب أخرى غير خدمة الفكر ومعالجة إشكالياته، كانوا ينطلقون من ثوابت متجذرة شكلت على مدار عقود جوهر المجتمع فكريا وروحيا، وكان من المستحيل تحييد تلك الثوابت أو عزلها عن أي جدال أو نقاش يرمى إلى التحديث ومواكبة التطور، كانت بمثابة الجذور التي تمد الفروع كلما ضعفت بدفقة جديدة من الحيوية والنشاط لتصلب طولها وتواجه تقلبات المناخ برياحه وعواصفه وأتربته.

عندما سُئل المفكر المغربي الكبير الراحل محمد عابد الجبري: هل الغاية من أطروحاتك الفكرية والفلسفية فصل الدين عن الدولة؟ فأجاب بقوله: "ليس في الإسلام كنيسة" إجابة عبقرية تنم عن فهمه ووعيه وتبين مقاصده ودوافع أطروحاته التي لم يرد منها إلا زعزعة الفكر السائد وتحجر العقل وإعادة تكوينه بعيدا عن العبث في الثوابت، وفصل الناس عن عقيدتهم أو التشكيك فيها، بحجة أنها ميراث الأجداد ووجب إعادة النظر فيها كما قالت بذلك إحدى رواد مؤسسة تكوين للتنوير والثقافة التي أطلت علينا حديثا برؤوس تطفو من السطحية وتحمل في عقولها إفلاس فكري، وتروج لسرديات هي في الحقيقية مجرد خطط جاهزة وصدى لأفكار فاسدة ووافدة، لا فائدة من وراءها إلا تصديع الناس والتشكيك في ثوابت ما يعتقدون.

استنساخ قديم

عندما بدأت الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي أطلقت مخابرات CIA منظمة الحرية الثقافية، وأنفقت عليها ملايين الدولارات للانقضاض على كل ما هو شيوعي وجندت كثيرًا من المثقفين، بوعي ودون وعي، لهزيمة الشيوعية والترويج لسردية مفادها أن التحديث هو مؤامرة شيوعية يهدف لتقويض الديمقراطية الأمريكية، وإطفاء النور القادم للعالم. 

انطلقت المنظمة في كل مكان، تطبع الكتب وتروجها وتحولها لأعمال سينمائية برؤية تُحيزيّة، لوقف المد الشيوعي الذي ينافس الهيمنة الأمريكية ويقضي على حلم قيادتها للعالم. 

والآن الأدوات نفسها تتكرر بالأهداف نفسها، لضرب الإسلام في عقر داره، وتنفير الناس منه لإبعاده عن حركة الحياة بقيمه وشرائعه. ولا أنسى ما قاله الرئيس الأمريكي نيكسون بعد أن سقط الاتحاد السوفيتي: "لقد قضينا على الاتحاد السوفيتي المارد الأحمر، وعلينا الانقضاض على المارد الأخضر المتمثل في الإسلام، وتعجيل مواجهته قبل أن يستيقظ هذا المارد". 

خطط قديمة حديثة تُطبّق الآن بأيدي "الثيوتنويريين الجدد" وبإشراف وكلاء بعض الدول المستفيدة تحت أسماء براقة وحواضن مشبوهة، لا غاية من وراءها إلا الكسب وتزييف الحقائق وهدم الدين وصناعة رموز «تنويرية» بديلة تُنجم أكثر مما تفكر وتهدم أكثر مما تُعمّر.

في كتاب صدام الحضارات تحدث صمويل هنتجنتون، عن الحضارة الإسلامية التي تمثِّل في نظره إحدى حضارات المواجهة كونها تنطوي على مجموعة من القيم والأفكار التي ترفض الهيمنة الأميركية، وبعد سنوات قليلة من انتشار تلك الأفكار أصدرت مؤسسة الأبحاث والتطوير الأمريكية "راند" وثائق تتحدث عن شكل جديد للإسلام مناسب أكثر لقيم الحداثة، حيث وجد باحثو المؤسسة ضالتهم في أعمال بعض «التنويريين» العرب التي استندوا إليها في تشكيل التصوّر المطلوب، والترويج لإسلام مدني منزوع الحيوية متكلس النشاط، بلا أي موضع قدم في حركة الحياة، فحضارة الإسلام في نظرهم آخر قلاع المواجهة والقيم الحاجزة ضد قيم وعولمة الكاوبوي الأميركي.

يقول جوزيف مسعد في كتاب «الإسلام في الليبرالية»: في القرن الحادي والعشرين، وفي سياق حروب تتناغم مع مخططات الولايات المتحدة الحالية، تَحرّك كثير من الليبراليين العرب برعاية غربية أمريكية لتحدي ما سموه "العجز الديمقراطي" في العالم الإسلامي باعتبار مسألة الدين هي المشكلة وليس فقط مسألة الثقافة التي يحفزها الدين، فعملوا على تأسيس برامج تغريببة وتكوين مؤسسات على أساس أن مشكلات المنطقة سببها الإسلام القديم وأن الحل يكمن في إسلام جديد ذي أبعاد ديموقراطية ومدنية تنتجه الليبرالية على هواها، كالذي رسمت أبعاده رئيسة مؤسسة «راند للأبحاث والتطوير» شيريل بينارد، في كتابها: الإسلام المدني الديموقراطي، إسلام جديد ينتجه المسلمون على هوى الولايات المتحدة والنمط الغربي. وتلك هي الغاية من تكوين هذه المؤسسات تحت غطاء التنوير، لكنهم نسوا أن ما يدّعونه تنوير ينقصه كثير من التنوير.