د عمار علي حسن يكتب: إلى يوسف زيدان وفراس السواح ومن دعاهم

ذات مصر

الدفاع عن طه حسين في وجه السخف الذي سمعناه، يجب ألا يكون من باب أن السابقين أفضل بالضرورة من اللاحقين، فهذا تفكير متسلف، لا يختلف عما يؤمن به أصحاب التصورات السياسية الدينية المغلقة، إنما من باب اكتمال العميد، باتساق الفعل مع القول، ومحاربته جمود الرؤية قدر محاربته الفقر والاستبداد والاستعباد، وتحركه في الواقع بما ينفع الناس، وإخلاصه الشديد للشرق، تاريخا وحضارة وإنتاجا معرفيا، وهو ما أثبته في كتابي عنه "بصيرة حاضرة .. طه حسين من ست زوايا" من خلال تحليل كلماته في مؤتمرات المستشرقين التي كان يدافع فيها عن الحضارات الشرقية، ويرفض استغلال العلم والمعرفة في خدمة الاستعمار.
طه حسين في أيامه كان يعاني من عدم اعتراف بعض مجايليه به، وتمرد بعض الشباب عليه، وكل هؤلاء كانوا يٌنقصون من قدره، وهو شكا من ذلك في كتابه "خصام ونقد". كان عميد الأدب العربي يعرف أن "المعاصرة حجاب" فأبناء الجيل والزمن الواحد لا يمكنهم الإقرار لأحد بالتفوق عليهم، أو بأنه صار أغزر منهم علما وإنتاجا، وأعلى مكانة، وأذيع صيتا، لأن هذا معناه أن يعترفوا أمام أنفسهم بأنهم الأضعف تعبيرا، والأقل تأثيرا، والأقصر بقاء.
لكن كثيرين ممن أنقصوا من قدر العميد وهو على قيد الحياة، غيرة أو حقدا أو حسدا، صاروا الآن صغارا بالقياس إليه، وعابرين مقارنة بمعجزته وأسطورته الراسخة، واتساق قوله مع فعله.
لهذا أعجب أن يقارن نفسه بطه حسين، كاتب أو باحث يرهن قلمه ويبيعه لمن يشتريه، أو يغازل المشروع الاستعماري الغربي لينال جائزة، أو يجاري مستبدا أو لا يجرؤ أصلا على نقده، بل ينتفع منه، ويتنكر لأشواق أهله إلى العدالة والحرية، وفي الوقت الذي يتجرأ فيه على الله سبحانه يعجز إبداء ملاحظة على أداء شرطي مرور في بلده.
نعم في الأيام الحالية تضاعفت المعارف وتطورت مناهج البحث والدرس كثيرا عما كانت عليه أيام طه حسين، وخُلقت أسئلة جديدة لواقعنا تحتاج إلى إجابات مناسبة لها، لكن لا يزال نص طه، وعطاؤه المتعدد في الأدب وألوان من العلوم الإنسانية، قابلا للاستعادة والإفادة، وليس هذا بغريب على رجل كان يؤمن بأن "القديم جديد ما دام نافعا"، وكان يعطي تلاميذه حق الإضافة، وترميم ما نقص في مشروعه العظيم.
الشيء الأخير أن هذه الزمرة ليست منصفة، ولا يمكن لأي منها أن يحوز ولو النذر اليسير من إنصاف طه حسين واستقلال رأيه وقراره، يكفيه هذه العبارة في كتابه "من بعيد" التي قال فيها: قتل المسلمون علماء واضطهدوا علماء، وقتل المسيحيون علماء واضطهدوا علماء، وقتل اليهود علماء واضطهدوا علماء، والحق أقول إن المسلمين قتلوا واضطهدوا علماء فرادى، بينما كان القتل في تاريخ المسيحيين واليهود للعلماء واضطهادهم جماعيا، وبينما لم يخاصم الإسلام العلم، خاصمته المسيحية واليهودية." كان العميد يشير هنا إلى ما جرى لعلماء مصر القديمة، على يد مسيحيين متعصبين.
طه حسين الذي كان في أول الناقدين لكثير من التصورات الجامدة في تاريخ المسلمين، كان يعرف، في إطار المقارنة، أن يفرق بين هذا وذاك، وهنا وهناك، بينما أغلب المتمسحين به الآن باسم "التنوير" مدفوعون في اتجاه واحد، ولا يقفون للمقارنة، لأن من يوجه ويدفع أو يمول، لا يعنيه العلم ولا المعرفة ولا التنوير، إنما خدمة مشروع سياسي ظاهر. وبينما كان طه حسين يرى التنوير في إعلاء العقل وإطلاق التفكير العلمي البرهاني، فإن هؤلاء المتمسحين بالعميد هم سلفيون مغايرون، لأنهم مصرون على الطريقة الفاشلة التي تقوم على مواجهة الرواية الدينية التي يرفضونها برواية أخرى يقبلونها، دون أن تكون روايتهم بالضرورة أكثر حجية.
مثل هذا المسار سيربح فيه الطرف الأول لأنه الأكثر عددا، والأعمق رسوخا في المجتمع، وسينتهي هذا المسار، الذي تم تجريبه كثيرا وفشل، بانتفاخ جيوب بعض القائمين عليه، دون أي أثر يذكر، والأيام بيننا.