دول الخليج في السودان.. رعاة «التقسيم الجديد»

دول الخليج والسودان
دول الخليج والسودان

منذ عام 2003 كرّست الرعاية الخليجية للتفاهمات السودانية، بين الدولة المركزية والحركات المسلّحة، وضعاً خطيراً أسهم بدوره في بلوغ المشهد الحالي، حيث تحاول الدولة استيعاب انشقاق قوات الدعم السريع عن إدارة الجيش وإعلان التمرّد، الذي يواجهه السودان بالفعل، جنوباً وغرباً، منذ عقود. 

اللافت أن نفس الدولة، بناء على التفاهمات التي رعتها دول الخليج، تدفع لحركات دارفور المسلحة، منذ سنوات، مبلغاً شهرياً يبلغ حوالي مليون دولار لرواتب عناصرها، وتدفع تلك الدول باقي المبلغ حال عجز خزينة السودان عن السداد الكامل. هذا دون اشتراط تسليم سلاحها، مثلاً، أو الضغط عليها للتوحّد في كيان سياسي يخوض الحياة السياسية والانتخابات بصفة مدنية. 

قطر والحركات المسلحة في السودان

في الأساس اقتصر عدد الحركات المسلحة في دارفور على اثنتين، حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، ليرتفع بعد بضعة أعوام من انطلاق "المبادرة" القطرية، عام 2003 إلى 8 حركات رئيسية عام 2007، وصولاً إلى اتفاق حسن النوايا بالدوحة مع حركة العدل والمساواة عام 2009 وأخيراً وثيقة الدوحة للسلام عام 2011، وبلغ أكثر من 80 حركة عام 2020. 

خلال المفاوضات المنفردة في تلك الأعوام، دأب المسئولون القطريون على استقطاب قيادات دارفور، وإجراء تفاهمات جانبية مع أعضاء وفود الحركات المشاركة المكوّنة عادة من قائد ونائبه وأمين سر وعدّة قيادات، وشجّعوا بعضهم على الانفصال عن الحركة وتشكيل أخرى بدعوى تعزيز الموقف التفاوضي مع الدولة السودانية.

واقترن ذلك بجسامة التمويل المتاح وسهولة تشكيل مجموعات و"الإعلان عن" الانشقاق حدّ أن تحرير السودان وحدها يُنسب إليها حوالي 50 كيان، يحملون نفس الاسم مع إضافة اسم القيادي المنشقّ، وأحياناً صفة سياسية أو جهوية (القيادة العامة - القيادة الميدانية - وحدة جوبا). 

ولعلّ هذا التشظّي، الذي لم تبدُ له نهاية في عقد الألفين، كان أحد بواعث القذافي، الوسيط بدوره بموازاة الدور القطري، إلى الدفع بفكرة توحيد الحركات في كيان واحد تيسيراً لإجراء اتفاق نهائي، وطرح عدم تمركز قواتها في المدن والمناطق المأهولة بالسكان، وهو ما تحقق وقتها، جزئياً، تنفيذاً لطلبه. 

انفصال غرب السودان

من ناحية أخرى لا يبدو سيناريو انفصال غرب السودان قابلاً للتحقق، إذ يوالي الجناح الأكبر في حركة تحرير السودان، جناح مِني أركو مِناوي حاكم إقليم دارفور، العاصمة القومية ويشكّل عاملاً للاستقرار توازن القوى في الإقليم، ويجد مصلحة أكبر في الارتباط بالدولة المركزية في ظل وجود الحركات والأجنحة الأصغر وغياب التوافق معها، خاصة حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد النور المقيم بفرنسا، التي لا يثق بها مناوي ولا يأمنها. عدا عن نقل أغلب الحركات الأصغر معدّاتها وأسلحتها الأثقل إلى ليبيا، بالتنسيق مع خليفة حفتر، بداية من عام 2014 حتى 2018 حين سقط البشير، تحسّباً لرفع العقوبات الدولية عن السودان وبالتالي ازدياد قوة وتسليح الجيش، ما يسمح له بكرّة أخرى من المواجهة لبسط سيطرة الدولة على كامل دارفور. 

وكانت عناصر جناح النور تلقّت تدريباً مهنياً إماراتياً على الأعمال الإدارية للدولة، مثل استخراج الهويات وتسجيل المواليد، والأعمال الشرطية، ما جعل رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان يستعلم الإمارات بهذا الشأن، محتّجاً بأن الجناح لم يوقّع اتفاق السلام وغير مدرج به ولا يعترف بالحكومة، مع كون العنوان المعلن للبرنامج التدريبي "الاندماج في جهاز الدولة"؛ وانتهى الأمر بتنفيذ فريق من جنوب أفريقيا التدريب على نفقة الحركة نفسها.

وقف إطلاق النار

غير بعيد عن ذلك، تطالب دول الخليج الآن - بالتنسيق مع الغرب وإسرائيل - بوقف إطلاق نار وتهدئة تصب في صالح الدعم السريع، ولن تعني سوى توسعة انتشاره، الأسرع - تقنياً - بالفعل من قدرة الجيش التقليدية على الانتشار والملاحقة، ما سيجلب المزيد من الفوضى وسيجعل احتواء القوة العسكرية لحميدتي مستحيلاً، في تكرار لمسعى إضعاف المركز ودعم قوى دون الدولة في الأطراف. 

وهو ما تجلّي كذلك آخر عامين في شرق السودان، بتصاعد فاعلية ونفوذ الإمارات والسعودية هناك، مع تكرار قطع  طرق الشرق، حيث ميناء ومدينة بورت سودان الحيوية، التي تربطه بالخرطوم وباقي البلد، بفاعليات احتجاجية أقامتها أحياناً قوى لوّحت بالمطالبة بالانفصال بالفعل، ما جذّر شكلاً من الانفصال الجغرافي للشرق في الشهور الماضية، ومثّل غطاء لتمرير السلاح إلى الدعم السريع الذي لم يرتكز قبل ذلك في بورت سودان وكسلا، لكنّه يمتلك الآن نقطتيّ ارتكاز هناك هي ذاتها نقاط استقبال العتاد والسلاح القادمين من إثيوبيا بحراً وسددت ثمنهما الإمارات والسعودية، ما راكم قوة عسكرية أكبر من ذي قبل، موضوعياً، وربما أعلى نوعياً، وذات ولاء للمموّل الخليجي الذي أعطى له رحيل البشير هامش حركة أعلى، مثل إثيوبيا، وجمعته بالدعم السريع أرضية تنسيق مشتركة في حرب اليمن وتجارة الذهب لسنوات، وصولاً إلى الهبة الإماراتية التي سبقت اندلاع المواجهة مباشرة وكانت عدداً كبيراً من سيارات الدفع الرباعي فئة لاندكروزر، بلغ 200 سيارة.

الخليج ودعم قوات الدعم السريع

من ناحية إعلامية، علَت أصوات الخليج، أول يومين من الاشتباكات، لإعلان سيطرة الدعم السريع على المرافق الحيوية للدولة، في تلقّف لما أعلنته الميليشيا نفسها مبكّراً جداً ولم يكن صحيحاً بحال. والحقيقة أن الدعم تولّى لسنوات تأمين المنشآت والمرافق الاستراتيجية وليس الجيش، وأُدخل الخرطوم بعديد كبير لأول مرة، بناء على تكليف البشير بالأساس مع بداية الانتفاضة في 2018.

لاحقاً كُلف الجيش بالانتشار بعد عجز الشرطة وعجزها عن فضّ اعتصام أبريل ــ القيادة العامة، ليجد طوقاً من تواجد الدعم حول تلك النقاط بالفعل، ومنها مطار الخرطوم ومقرّ التلفزيون الرسمي، وأماكن حيوية لم يقتحمها وينتزعها من الجيش في 15 أبريل، بل أحاطها وكان منوطاً به حمايتها فاقتحمها عندما اتُخذ قرار الانشقاق عن الدولة، ثم جاءت استجابة الجيش بتضييق الطوق الأوسع، الذي ضربه خلال أيام قبل بداية الاشتباك، والهجوم عليها لاستردادها.

الإعلام الخليجي ومليشيا الدعم

رغم ذلك ردد الإعلام الخليجي أخبار سيطرة الدعم على أهم منشآت الخرطوم، مع تضخيم قوته والتهويل بمدى تكافئها وقوة الجيش، بموازاة الدعوة إلى وقف إطلاق النار، في إطار أجندة سياسية لم تعد خافية، وتعكسها المواقف والسياسات، مؤدّاها التمكين للميليشيا في العاصمة تمهيداً لإنهاء دور الدولة المركزية عملياً. نموذج رأيناه في الصومال سابقاً في سياق الإطاحة بمحمد سياد بري، حين تمركزت الميليشيات القبلية والقوات غير النظامية بالعاصمة المركزية فأجهزت على الدولة.

بعد التفكك سمح لها بالسيطرة على مساحات في الأطراف والعلاقات الدولية المنفردة وبناء المطارات، واستخراج النفط لصالحها بمعزل عن الدولة المركزية، وصولاً إلى الواقع الحالي وانقسام البلد إلى 4 أقسام لا يحظى 3 منهم بالاعتراف الدولي لكنهم واقع قائم. 

من هنا كشف الخطاب الإعلامي الخليجي تكاملاً سياسياً مع مواجهة حميدتي للجيش، مثل احتواء الإمارات والسعودية له نفسه وتغذية قواه الصلبة، بصفته مقدّم خدمات عسكرية وسياسية، ومتعهّد مرتزقة، وبطموحه الشخصي لمقعد الرئاسة وتقلّباته الانتهازية في الداخل، التي جعلته الآن حليفاً، تحت مظلّة الإمارات، لـ"مكوّنات مدنية" تطالب بالديموقراطية وبادل بعضها العداء سابقاً، أحدها ياسر عرمان المُعادي لمصر، المنشقّ عن الحركة الشعبية لتحرير السودان ــ الشمال مشكّلاً ما سُمّي (التيار الثوري الديموقراطي) لها، الذي شجّعه على الاتجاه شمالاً حيث مطار مروي ويطمح بدوره للسلطة والترشّح للرئاسة. 

مصر في خطر

يؤدّي المشهد إلى تهديد خطير لمصر، من زاوية قطع اتّصالها الجغرافي بمنابع النيل وإثيوبيا وسد النهضة، ما يحجّم الخيارات الشحيحة أصلاً، مع الضغط الدولي على الدولة السودانية ذاتها، الذي عكسه تمديد مجلس الأمن العقوبات قبل شهر فقط من المواجهة، وهرولة المبعوث الأوروبي إلى الخرطوم لطرح وقف إطلاق النار بالوضع الحالي، أي إخلاء الطريق للدعم السريع وعرقلة مواجهته، بعد إخفاقه خلال يوم الاشتباك الأول في تثبيت نقاط سيطرة منيعة في العاصمة أو تحقيق هدفه بأخذ منشأة حيوية رئيسية. لا يبدو أفق مصر وفق تلك المعطيات، والواقع المحلّي المصري وانكماش بنيته الإنتاجية بالبيع لنفس الطرف الداعم لحميدتي، سوى نسخة أفريقية من باكستان، حيث الشحّ المائي وتدنّي الإنتاج الزراعي، والاعتماد على العمالة منخفضة المهارة والقيمة المنتَجة، مع تصدير الأعلى تعليماً إلى الغرب.

 نقطة التقاء مثالية بين مصالح الغرب والخليج وإسرائيل، التي استهدفت تاريخياً العلماء العراقيين ونرى استهدافها المنشآت البحثية العلمية السورية، حين يصبح كامل المحيط القريب للنفط استهلاكياً، ويخلو من أي بؤر صناعية أو علمية، ويحدَد تأثير مصر وتُستغل إمكاناتها بالمزيد من التحجيم، في سياق فقد تحكّمها بمقدراتها الاستراتيجية لصالح القوى الأخرى.