محمود عبد الحكيم يكتب: "أصوات" مصر.. جذور وتحوّل شرعية الداخل

ذات مصر

يصعب تصور الحياة السياسية في الدولة المصرية الحديثة بنمط ليبرالي، تداولٌ للسلطة التنفيذية بين قوى "حزبية" تشكّل حكومات. وحتى في النصف الأول للقرن العشرين لم تعكس تلك الآلية تمثيلاً شعبياً وافياً، قدر ما عكست تضارب مصالح كتل داخل شريحة واحدة شكّلت النظام السياسي نفسه، وصراعها مع القصر والاحتلال، جوار أطراف اجتماعية تقليدية، الأسرة الملكية حاكمة الأرض الزراعية رسمياً، وكبار الملّاك والأزهر والكنيسة، والعائلات التركية والغربية الأرفع وكبار التجّار المصريين. 

ثم وجدت شرائح اجتماعية أخرى (أضعف في التمثيل السياسي) تعبيراً عن مصالحها في تيارات تأخّر ظهورها، مثل الإخوان وحدتّو والتحرر الوطني الحركي العام، ولازَم نموّها اتّساع شرائح فقراء الحضر، صغار الموظفين والعمال بالجهاز الحكومي والحرفيين وصغار التجار، ونمو مشروع طلعت حرب للاقتصاد وعمل بنك مصر، وتصاعُد التحرر الوطني العالمي. مُثّلت التيارات في مجلس قيادة الثورة، الذي أزاح الإخوان وأقام جهاز الدولة الذي أعاد تشكيل السوق والعمل والأرض، والثروة، مكوّناً بيروقراطية جديدة غيّرت، بمجمل سياساتها وأوّلها نزع وإعادة توزيع الملكيات الكبيرة، عاملاً فارقاً كان نصيب السكّان - باختلافهم الاجتماعي - من مجمل النشاط الاقتصادي.

بيروقراطية يوليو.. من التمثيل الاجتماعي إلى جمع الأصوات 

نتيجة لشرعية التحرر الوطني والمكاسب الاجتماعية الواسعة، مع قيام أول طبقة وسطى كبيرة وإطلاق التعاونيات الزراعية، وُضعت آلية حكم انتخابية، مرتبطة بالجهاز الكبير لا من جهة تنظيمها إدارياً وحسب، بل الأهمّ، تمثيله كتلة متجانسة نسبياً تدعم دولة التخطيط المركزي والمسؤولية الاجتماعية، البيروقراطية الدنيا وموظّفي مؤسسات الدولة، وأصحاب الأعمال الأكبر وشركاء شركات القطاع العام، والشرائح الشعبية بالريف والحضر من متلقّي الدعم، نُظّمت سياسياً بصفتها فاعل اجتماعي، أو أصوات تجدد شرعيته الشعبية، أو نخبة تصل الكتلة بالحكم ومشروعه وأفكاره: الاتحادين القومي والاشتراكي (والتنظيم الطليعي نوعيّاً)، وحزب مصر ثم الحزب الوطني الديمقراطي.     

لعلّ أول إخفاقات الآلية احتجاجات 1977، على تخفيض الدعم وانطلاق تغيير علاقة الاقتصاد بالسوق العالمي، دون خطة مفصّلة أو غطاء شعبي أو مصالح واسعة، وبعد عام من حلّ البرلمان لتمرير كامب ديفيد. وقتها لم يشهد "الشارع" بالمدن الكبرى تيارات سياسية فارقة، قدر افتقاد الإدارة التحالف الاجتماعي اللازم لإقرار تخفيف مسؤولية الدولة على حساب مكاسب تلك الكتلة، وهوامشها ــ المتزايدة، فقراء الحضر والريف بتزايد الاكتظاظ والفقر، مع ثبات معدّل زيادة السكان مقارنة بالستينيات، وبموازاة تعطيل استصلاح الأرض وتصاعُد هجرة العمالة اليدوية للمدن والخارج. 

شعبياً، غاب التنظيم الحاكم، الشبكة الوسيطة سياسياً بين الناس والسلطة، بالنمط المركزي المصري، وحضرت أذرع تنفيذية وسيطة إدارياً، مثل الأمن السياسي الذي صفّى (مشروع تيار) ناصري عام، بموازاة إقالات في جهاز الدولة، وأُنشىء الحزب الوطني، العام التالي، أوسع مظلّة علاقات سياسية تربط السلطة بسكّان المدن، متسارعة النمو العشوائي، والأطراف والصعيد والدلتا. كان الهدف تجاوز ضعف حزب مصر بزعامة وزير الداخلية الأسبق ممدوح سالم، وعجْز نخبة الانفتاح وكبار الملّاك والمساهمين ــ الجدد، عن تكوين تحالف واسع مفارق للكتلة القديمة، مع حضور عناصر عليا منها بتلك النخبة، متعددة المكوّنات منذ بداية تشكّلها أول السبعينيات، وذات الطابع الريعي منذ طبّقت جديد التشريعات واتفاقيات المستوى الحكومي، بمتعلّقات ذلك البنيوية من تحالفات وروابط عائلية وجهوية، وارتباط برأس المال الغربي والعربي والمصارف الاستثمارية الناشئة. 

لكن جلب الالتزام بكامب ديفيد والارتباط الجديد بالسوق العالمي، وبالمؤسسات الاقتصادية الدولية والمعونة الأمريكية، محدداً رئيسياً للمعادلة: ضرورة الصندوق بنمط تعددية حزبية لتجديد الشرعية، لا ضرورة الإجماع الشعبي بظهير اجتماعي ضخم. وأُعيدت الآلية باختلاف عند مبارك، لتحمِلها شبكة مستفيدين أضيق لكن كافية للتمثيل الجهوي والنوعي، مهمّتها جمع كمّ أصوات دون ارتباط أو تمثيل سياسي أبعد، وحققت دورياً أغلبية تنتجها محصّلة عملها، وعمل الأمن السياسي شاملاً تفريغ واحتواء الأحزاب، ضعيفة التمثيل الشعبي والفاقدة لتجذّر مُنع في نصف السبعينيات الثاني وبعدها، وتحجيمه الإخوان والتيار الديني بالتفاهمات وغيرها، بلا مجال سياسي عام بالمعنى الليبرالي. فشهدت العقود الثلاثة اللاحقة حتى 2010 واقعاً إجرائياً للانتخابات، كان احتواءا لمجموعات معارَضة حزبية انخفض وزنها الملموس تدريجياً حتى الرمزية، رغم صراع انتخابي حقيقي في المدن الأكبر والدلتا أول عقدين، ترشّح مشاركون بها لاحقاً للرئاسة، مثل حمدين صباحي وأبو العز الحريري ممثّلَين للفلاحين والطبقات الشعبية. 

مشروع التركّز الجديد ــ شرعية الواقع

مثّلت هندسة "الأصوات بلا سياسة"، وتراكم تخلّف الاقتصاد والتحلل الإداري، سمة بارزة لعهد مبارك، وأدارها الهيكل المذكور بكتلة سكّانية ذات أغلبية فقيرة أوسع من كتلة الولاء للدولة، يعطيها الارتباط بمراكز السلطة والثروة ــ بعلاقات العمل والانتخابات والاستزلام، مصالح متنوعة. وتكاملت المفاعيل الاقتصادية، في واقع ضعف تنظيمي عام للدولة، لتنتج شريحة حاكمة منقطعة الصلة بالإنتاج، عضوياً وبقرارها الاستراتيجي، وتنتظم بنموذج (أعمال)، لا خطة إدارية مركزية، يدير تساقط ثمار محدودة ويقسّمها.

مع اتساع دوائر الأنشطة الطفيلية والمهمّشين واحتياطي العمل السلبي، العاملين بقطاعات غير إنتاجية، شكّل الأمن السياسي منذ وقتها، مع الشبكة التقليدية للدولة، آليات تنظيمية وحيدة تقريباً، في غياب الأشكال والتجارب التنظيمية إجمالاً بالمجتمع. آلية تستطيع الحشد، بتنوع عناصرها وجمهورها، في غياب أي قوى سياسية بوزن فاعل، لتقوم معادلة باتت راسخة وتتضح الآن، الدولة قوة سياسية وحيدة، والتنظيمات المعارِضة يصعب وصفها بالكامل بأنها سياسية بلا تجذّر جماهيري، وإما تجاوزت أن تفنيها الضربات الأمنية، لضعفها الجماهيري بالأساس، أو تعمل بالمجال المتاح وتعاني نفس الضعف باختلاف الدرجات. معادلة أدركتها الإدارة الحالية، وتقول - بحقّ - إنه لا يُعقل مشاركة طرف بلا وزن جماهيري السلطة، في واقع مركزي إدارياً بلا تنظيمات شعبية واسعة، ما وضّحه شدّ عصب الدولة عام 2013. 

أعادت شرعية 30 يونيو تجميع الشبكة، وتركيز السلطة، واستغرق تفعيل أحزاب أو أطر سياسية قاعدية (جديدة) تمثّلها سنوات، بقالب أساسي من الشبكة السابقة، اختلط بدوائر تمرّد والكيانات الصغرى المشكّلة بعهد مرسي، المتّصلة بدورها بدوائر يناير. وأُنجز من 2014 إلى 2018 التأمين وتصفية وإزاحة الإرهاب الحركي بالوادي وسيناء، ليتّضح الوسيط الجديد للربط السياسي بالتشكيلة الاجتماعية ــ التمثيل الشعبي: أحزاب يديرها مستوى أعلى من الأمن السياسي، ومتجاوزة لنخبوية المعارضة لارتباطها بالشبكة القديمة، والأهمّ البنية التقليدية على اتّساعها، الاقتصادية والعائلية والجهوية، وشكّلتها مجموعات بلا رابط "رسمي" بالضرورة وتربطها العلاقات القديمة و- أو الواقع والمصالح، تحت سلطة شديدة المركزية، وروابط وولاءات مستقرّة رغم سيولة طبائع وأنشطة المجموعات نفسها. هي سياسية وتحوز أغلبية برلمانية بهذا المعنى، ووثيقة الصلة بالقطاعات الاقتصادية الأنشط (السلع الاستهلاكية والإنشاء والمال)، ودوائر التوكيلات الأجنبية والوساطة وبيع الخدمات. أي مراكز قوى تمثّل الموالاة، بإمكانات التحكّم الاجتماعي واستثمارها معدّلات الفقر وغياب السياسة، ذاتهما، موسمياً لتكتيل أصوات.

أعاد التركّز صياغة الاقتصاد والأرض والسوق المحلّي. مخلفاً شريحة مستفيدين ومستثمرين في استقرار الحكم، يصعب حصرها نوعياً، وتضمن السلطة حلّ تناقضاتها الداخلية، ويثبّت موقفها غياب بديل يضمن مغادرة فخّ الدين الخارجي وسداد الودائع، بالفائدة المرتفعة الضاغطة للقطاع المصرفي، الشريك الحيوي للاستثمار الأجنبي، وللشريحة الحاكمة بصفته أداة لضمان حدّ أدنى للاستقرار الاقتصادي، مع معدّل تضخم متصاعد، فيسعى لاستقرار الحكم لتجاوز المخاطرة المشتركة، ومعه قطاع من صغار ومتوسطي المودعين (والمُلّاك).

يمثّل أي نظام سياسي، وقواعده وتشكيلته، محصّلة تراكم شامل، بعوامل وأطراف تاريخية بطبيعة وعلاقات قابلة للتحوّل، لكن تظلّ القوى الأكثر ثباتاً ذات البنية والمصالح الأكثر تجذّراً وتجانساً. وهنا وسّعت الدولة المصرية المعاصرة دورها الحاكم، بالبيروقراطية الحاضرة، وتكاملها مع عناصر من الرأسمالية وكبار التجّار والوكلاء والموزّعين، وبامتلاك شبكة تقليدية مسيطرة غربلَتها بعد يناير، وبانتفاء بنى تنظيمية بديلة، نحو تركّز سلطة ومصالح وعلاقات، يوفرّ للجمهور سلعاً أساسية مستنداً لتركّز آخر، تجاري وإنتاجي، ويحاول اقتناص السلع الحرجة من تقلّبات السوق العالمي ما استطاع، ما يفيد بالمحصّلة ضرورة بقاء إدارته السياسية، السلطة المركزية.

تعكس آليات مثل الأكاديمية الوطنية للتدريب والبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب، وتنسيقية شباب الأحزاب والحوار الوطني، وعمل الدولة في التكافل الخيري والإعلام والتواصل الاجتماعي، سعياً لتجاوز حزبية أغلبية البرلمان ــ أداة التشريع، إلى صلة أقوى بالتشكيل الاجتماعي وتعويض لاتّساع طيف المعارضين بعد انسحاق مكاسب الطبقة الوسطى. وفي الخلفية تحكم عوامل هامة رؤية الأغلبية للسياسة، مع ضمان السلطة جمع مؤيدين: المآل النهائي ليوم 28 يناير 2011، أي الواقع الحالي والتأثّر الأكبر بالأسعار العالمية دون إنتاج محلّي، درس مستفاد يجعل ظهور "الهراوة الواحدة" لفعل الانتفاض والسخط أصعب. وانعدام البديل الجاهز للمنافسة، فضلاً عن الحكم. والعامل الإقليمي الحالي، الذي يجعل استقرار الدولة المركزية في مصر ضرورة أكبر من ذي قبل، لشعبها ومحيطها.